الأمن المائي والحلول الآنية والاستراتيجية
المهندس إياد الدحيات
09-08-2023 10:55 AM
يؤكد جلالة الملك عبدالله الثاني – حفظه الله ورعاه – على ترسيخ مبدأ الأمن المائي كأولوية وطنية في رؤية التحديث الاقتصادي، وذلك لما تشهده المملكة من تحديات تجعلها واحدة من أكثر الدول جفافاً وافتقاراً للمياه على مستوى العالم. وتعاني المملكة عجزاً يقدّر بكمية 400 مليون متر مكعب سنوياً ، وعدم توافر مصادر دائمة أو بديلة للمياه العذبة، كما كان لتغير المناخي دور كبير في تراجع كميات الهطول المطري بنسبة تزيد على 20 في المائة، مما أدّى إلى الإفراط في استغلال موارد المياه الجوفية بشكل غير مستدام كحل قصير الأمد لتقليل الأثر السلبي على كافة النواحي المعيشية والاقتصاد الوطني. وعليه، لابدّ من تبني حلول آنية واستراتيجية تعمل على تحقيق الاستدامة المائية والمالية لقطاع المياه كركائز أساسية نحو تحقيق الأمن المائي، وتأكيد ديمومة وصول المياه إلى المواطنين في كافة الظروف و مواكبة أفضل الحلول العالمية.
ولا شك أن تحقيق الاستقرار في ملف الأمن المائي يتطلب جهداً عاماً على مستوى كافة الجهات الرسمية، كما يتطلب عملاً متواصلاً من وزارة المياه والري ومؤسسات قطاع المياه المختلفة لتحويل التحديات إلى فرص، والدفع للانتقال من مرحلة تخطيط الاستراتيجيات والسياسات لمرحلة تنفيذ الإجراءات الفعلية على أرض الواقع والمشاريع والحلول قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى.
وتبرز كذلك الحاجة إلى الإصلاحات للحد بشكل دائم من العجز المالي ومعالجة القضايا الهيكلية للقطاع والحفاظ على استدامته المالية، حيث يمثًل الوضع المالي لقطاع المياه تحديًاً بالغ الصعوبة، وتبلغ قيمة العجز المالي له ما يزيد عن 300 مليون دينار سنوياً والذي يعادل 1% من الناتج الاجمالي المحلي للمملكة، في حين أن إجمالي دين قطاع المياه الداخلي والخارجي يزيد عن 3 مليار دينار.
ويعتبر مشروع تحلية المياه والناقل الوطني الحل الدائم طويل الأمد للتحدي المائي في المملكة، حيث سيوفر 300 مليون متر مكعب سنوياً، وبالتالي يجب الاسراع في إنجازه وتزويد محافظات المملكة باحتياجاتها من المياه بحلول العام 2028، وكما هو مخطط له. ويتطلب ذلك تعديل آلية تنفيذ المشروع وفصله لجزئين، يكون الجزء الأول نظام نقل المياه الوطني الاستراتيجي والجزء الثاني محطة تحلية المياه في مدينة العقبة يتم تنفيذهما في نفس الوقت. فيما يتعلق بالجزء الأول، يكون التمويل والإشراف من مسؤولية شركة حكومية تعمل على استقدام مقاول رئيسي لتصميمه وتنفيذه بالكامل وتقسيم مسؤولية التنفيذ لمقاطع متعددة عددها ست (ما يعادل 70 كلم لكل مقطع) لمقاوليين أردنيين متخصصين، بحيث يمكن إنجاز هذا الجزء في مدة لاتزيد عن 24 شهراً. في حين يتم تمويل وتنفيذ الجزء الثاني على مبدأ الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص من خلال شركات عالمية متخصصة في مجال تحلية المياه، ويمكن تنفيذه في مدة لا تزيد عن 18 شهراً.
ومن الضروري بمكان البدء بتنفيذ مشروع تحلية آبار حسبان على مبدأ الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص لتأمين 15 مليون متر مكعب سنوياً من المياه المحلاة الصالحة للشرب لتزويد محافظة العاصمة من خلال حفر 10 آبار وبناء نظام معالجة للمياه المالحة ونظام للطاقة الشمسية لخفض فاتورة وكلفة الطاقة الكهربائية، ليتسنى ضخ المياه منها إلى النظام المائي القائم في محطة الزارة-ماعين الذي يستوعب هذه الكمية بشكل كامل دون الحاجة لأي أعمال توسعة أو استثمارات رأسمالية إضافية.
وتعتبر زيادة كميات المياه التي يتم ضخها بشكل دائم من مشروع جر مياه الديسي بمقدار 20 مليون متر مكعب سنوياً من الحلول قصيرة المدى ويتضمن حفر آبار إضافية بالتوافق مع الاتفاقية المشتركة الأردنية السعودية لإدارة واستثمار المياه الجوفية في طبقة الساق / الديسي التي تم توقيعها سابقاً عام 2015، وإجراء بعض التحسينات على خطوط مياه تجميع الآبار والخطوط الناقلة التابعة لها، وربط خط ناقل مياه مشروع الديسي على الأنظمة المائية لمحافظات الجنوب من خلال مخارج مياه دائمة مربوطة على خزانات المياه الرئيسية لهذه المحافظات. وكذلك يجب أن تتم المباشرة بتحديث الدراسات الجيولوجية والنماذج الرياضية وحفر الآبار التجريبية الخاصة بالمياه الجوفية العميقة في مناطق الحسا وجنوب عمان التي تعتبر امتداداً لحوض مياه الديسي، بهدف تحديد كمية ونوعية المياه العميقة وطرح المشروع بكافة مكوناته كفرصة استثمارية من خلال الشراكة ما بين القطاعين العام والخاص لتطوير المشروع وتوفير التمويل والتكنولوجيا اللازمة لمعالجة ونقل هذه المياه، وتزويدها بنفس الطريقة التي تم اتباعها سابقاً في مشروع جر مياه الديسي.
ويمكن في المدى القصير توسيع الاستفادة من المياه المستصلحة في الزراعة بعد الانتهاء من تنفيذ والبدء بتشغيل مشروع الخط الناقل لإعادة الاستخدام المياه المعالجة في الأغوار الشمالية الذي يقوم على تحسين أنظمة المعالجة في محطات التنقية في محافظة إربد ولواء الرمثا وبما ينسجم مع التقنيات العلمية الحديثة والمتطورة، بهدف استخدام المياه المعالجة التي تصل كمياتها إلى 20 مليون متر مكعب سنوياً لأغراض الزراعة المقيّدة في الأغوار الشمالية وبعد اتباع أسلوب الخلط، واحلالها مكان المياه العذبة التي يتم استخدامها حالياً في الزراعة، حيث يتم إعادة ضخ هذه المياه العذبة في النظام المائي وادي العرب/2، والتي ستعمل على تعزيز التزويد المائي في محافظات الشمال.
ومن الحلول التي ستساهم في توفير المزيد من مياه الشرب على المدى القصير تنفيذ مشروع محطة لمعالجة مياه سد الوالة وخصوصاً بعد أن تمت تعلية هذا السد، وزيادة سعته التخزينية من 10 مليون متر مكعب إلى 26 مليون متر مكعب، وضخ المياه الناتجة من المعالجة لمحافظات الوسط من خلال نظام التزويد المائي في الوالة-الهيدان-لب في محافظة مأدبا. ومن الجدير ذكره أنه تمّ سابقاً بين الأعوام 2015 و 2017 تنفيذ محطات مماثلة على كل من سد الموجب وسد كفرنجة لتعزيز التزويد المائي في محافظتي الكرك وعجلون وبوقت قياسي لم يتجاوز 6 أشهر بين التخطيط والتنفيذ والتشغيل، مقارنة بالمشاريع المماثلة التي يحتاج تنفيذها الى أكثر من 18 شهراً. إضافة لما ورد أعلاه، أشارت الاستراتيجية الوطنية للمياه 2023-2040 إلى أهمية التعاون الاقليمي المشترك لتحقيق الأمن المائي الأردني من خلال نظام المقايضة، حيث ستعمل هذه المشاريع على تعزيز التزويد المائي وتوفير كميات من المياه الإضافية التي تشكل مصدراً مهماً ورديفاً في الموازنة المائية للمملكة، التي تعتمد بشكل رئيسي على كميات المياه التي سيتم توفيرها من المشاريع الوطنية وتشكل الركيزة الأساسية لتحقيق الأمن المائي.
ومن أهم محاور تحسين الاستدامة المالية لقطاع المياه إعادة توجيه الدعم بالتركيز على الفئات المستحقة متوسطة الدخل والفقيرة من خلال وجود خطة واضحة تصنّف مشتركي المياه حسب كميات الاستهلاك ودخل الأسرة، كما تم سابقاً في قطاع الكهرباء، تراعي تفاوت الدخل، وتبين الآلية المستخدمة لإعادة توجيه الدعم. ولضمان وصول الدعم للمستحقين، يجب أن تطوّر وزارة المياه والري نظامًا لدعم تعرفة المياه لتوفير الحماية للمواطنين الأكثر عرضة للتأثر نتيجة الأعباء المالية التي يمر بها الاقتصاد الوطني وتتناسب مع التكلفة الاقتصادية لتزويد المياه وكفاءة أداء شركات المياه وحجم الاستثمارات المستقبلية خلال الأعوام القادمة. سيساهم ذلك في تعزيز العدالة الاجتماعية وترشيد الاستهلاك ورفع كفاءة الانفاق الحكومي وتشجيع استثمار القطاع الخاص.
كذلك يجب العمل على تحصيل بقايا أثمان المياه والصرف الصحي المتراكمة على جزء من المشتركين والتي تصل في مجملها إلى 200 مليون دينار أردني من خلال إشراك القطاع الخاص بواسطة عقود الشراكة المبنية على الأداء والحوافز وتفعيل الأنظمة والقوانين ذات الصلة وتقسيط الديون المتراكمة على المشتركين.
ولعل الأولوية تكمن في تخفيض فاقد المياه الذي تصل نسبته في المملكة إلى 50% أو ما يعادل 235 مليون متر مكعب سنوياً، وقبل الانتهاء من المشاريع الوطنية، الذي يساهم جذريّاً في زيادة كميات المياه المباعة وبالتالي إيرادات المياه، وتنفيذ الحلول التي تستند على تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتي يتم من خلالها مراقبة استخدام المياه وقراءة كميات الاستهلاك وتحديد المناطق التي تُهدر فيها المياه أو يوجد فيها اعتداءات على الشبكة. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لاكتشاف التغيرات في تدفق المياه والضغط في الوقت الفعلي و يتيح ذلك لمشغلي الشبكة تحديد أي مشاكل بسرعة، مثل التسريبات أو الاعتداءات، واتخاذ الإجراءات التصحيحية.
يمكن أيضاً استخدام الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تحسين استخدام المياه، من خلال تحليل البيانات من عدادات المياه والمصادر الأخرى، وتحديد المناطق التي يكون فيها استخدام المياه غير فعّال، مما يسمح بوضع استراتيجيات لتنفيذ مشاريع لتقليل الفاقد.
المهندس إياد الدحيّات / الأمين العام الأسبق لسلطة المياه