في تفكيك مقولة الرئيس الروابدة
د.عبدالحكيم الحسبان
08-08-2023 06:36 PM
قبل أيام قليلة، أورد محرر موقع عمون الالكتروني تصريحات لرئيس الوزراء الأسبق دولة عبدالرؤوف الروابدة أدلى بها إلى إحدى قنوات التلفزة العربية تناول فيها الكثير من قضايا الشأن السياسي الأردني وحيث اختار محرر موقع عمون تظهير الجزء المتعلق بالعشيرة، والعشائرية في الأردن في تصريحات دولته، وليتخذ من تصريحات دولته حول العشيرة عنوانا للخبر المتعلق بها على موقع عمون الالكتروني.
ومما اقتبسته حرفيا من تصريحات دولته حول العشيرة وسأخضعه للنقاش والتحليل والتفنيد في هذه المقالة قول دولته ردا على سؤال فيما اذا كانت العشائرية نقمة أم نعمة، "أنها –أي العشائرية- تمثل قمة من قمم النعم في الأردن، وأن البلاد لا تمتلك عشائر بأحجام كبيرة. وأن المنظمة العشائرية الموجودة هي مؤسسة اجتماعية لأن العشيرة لا تقبل بأن يكون بين أبنائها فقير ومحتاج، وبانها مؤسسة أمنية لأنها تأخذ الحق من ابنها كما تأخذه له. الروابدة الذي نفى أن تكون العشائر طاغية على دور الدولة، شدد على أن الدولة تحتاج دائمًا إلى أجهزة مساندة". انتهى الاقتباس.
لم يكن من الجائز مطلقا أن تمر هذه التصريحات حول العشيرة وحول العشيرة بدون أن تثير نقاشا ساخنا، ليس لأهمية الكلام الذي صدر فحسب، وليس لأهمية موضوع العشيرة والعشائرية في دولة كالأردن، ولكن لان الكلام المشار إليه يصدر عن رجل شغل وما زال، موقعا محوريا داخل دائرة صنع القرار في الدولة الأردنية، ما يعني أن الكلام الذي يصدر عن رجل بمثل هذه الحيثية لا بد وأن يكون- في جله أو في بعضه- يمثل سياسة دولة أو سياسة بعض الدوائر النافذة فيها على أقل تقدير.
وعليه، فإن مناقشة مقولات دولته، هي ليست من باب الحوار والنقاش مع شخص دولته، وإنما هي وبسبب موقع دولته وحيثيته السياسية، فهي من باب الحوار والنقاش بل والمحاكمة لسياسة الدولة قاطبة.
وأما مكمن الأهمية الآخر في هذا الكلام فهو يتعلق بالتوقيت وحيث تعيش الدولة الأردنية لحظة خيارات تاريخية بين الاستمرار في البنى الاجتماعية، والسياسية، والحقوقية التقليدية التي تنتمي لعصر ما قبل الدولة، وبين الولوج في عالم الدولة الحديثة التي إن قيل لي أن اختار كلمة واحدة كي اصفها فاني سأقول وبلا تردد أنها دولة المواطنة -التي هي الترجمة العربية الرديئة لمصطلح Citizenship باللغة الإنجليزية و Citoyenneté باللغة الفرنسية، وحيث تشير اللفظتان إلى المدينة وما نشأ داخلها من تطورات ثورية على صعيد الاجتماع الإنساني- أو أنها دولة المواطنين، وليس دولة العشائر والعشائرية، أو دولة الطوائف والطائفية، أو دولة الاثنيات والعصبيات الاثنية.
وفي تفنيد مقولة دولته، من المهم أن اسجل كل الاحترام لدولة الرئيس عبدالرؤوف الروابدة، وأن أسجل كل الاحترام أيضا للحيثية الوطنية، والسياسية، والإنسانية، التي يمثلها. ما يجعل النقاش الوارد في هذه المقالة، مجرد نقاش علمي في مواجهة نص صادر عن رجل سياسي. وفي هذه المقالة، فإنني لن استخدم سوى الأدوات والمفاتيح المعرفية العلمية التي تتيحها انثروبولوجيا السياسة. ومن حسن الحظ أو سوئه، فإن تخصصي الدقيق هو في أنثربولوجيا السياسة وهو بالتحديد في الدراسات المتعلقة بالعشيرة والدولة في الأردن، وحيث كانت رسالتي الماجستير والدكتوراة اللتين اشتغلت عليهما، كانتا عن العشيرة والسلطة والدولة في الأردن.
في تناول الحديث الذي يسم العشائرية بأنها قمة قمم النعم في الأردن، فيكفي النظر أولا إلى حجم الأزمات العميقة التي تعيشها البلاد وحيث مؤشرات الفقر، والبطالة، والتفاوتات في الدخل، وتصاعد نسب الجريمة، والطلاق، ونزيف اليد العاملة المهاجرة المتعلمة وغير المتعلمة، واختناقات قطاعات الصحة، والتعليم، والزراعة، وتراجع مستوى الحريات، السياسية، والإعلامية لينزل الأردن إلى ذيل القائمة ليدرك المرء أن البلاد لم يعد فيها من مكان واسع للحديث عن نعيم وعن نعم. فالبلاد باتت تعيش واقع دولة تخوض حربا، رغم أنها لا تعيش في حالة حرب بالمعنى الحقيقي. فهي تعيشها على صعيد المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في حين لا تعيشها واقعا أمنيا أو عسكريا.
وفي كل هذه الاختناقات والمؤشرات الخطيرة التي تعيشها البلاد لا يمكن مطلقا تبرئة العشائرية مما جرى ويجري، طالما أن العشيرة والعشائرية ما زالتا وباعتراف معظم رجالات الدولة، وكثير من الاكاديميين المرتبطين بالدولة الأردنية، هما من ركائز النظام السياسي الأردني، وباعتراف صريح من قبل دولتي الرئيس الروابدة، وفيصل الفايز.
فالسياسة في البلاد وبكامل مستويات الحقل السياسي سواء كان النظام السياسي أو Polity، أو السياسات Policies، كما السياسيات أو ال Politics تتخذ من العشيرة والعشائرية محاور، وأدوات واستراتيجيات، ونصوص قانونية تستخدمها في إدارة شؤون السياسة، وصناعة الحكم، وإعادة انتاج الدولة والمجتمع.
في حديث دولة الرئيس كلام صريح وليس ضمنيا عن العشائرية والعشيرة باعتبارهما صديقان للدولة، ويتكاملان معها، وبأنهما يشكلان رافدا لعناصر قوتها. وهو كلام يكون صحيحا إذا كان من باب الممارسة السياسية أو ال politics وباعتباره صادرا عن فاعل سياسي هو دولة الرئيس الروابدة، ولكن الكلام يدخل في باب الخطأ والتهافت إذا تمت محاكمته علميا. فأن يصدر الكلام عن فاعل سياسي، فهو سيكون كلام سياسي، وقد يكون صحيحا بمقاييس الممارسة السياسية، وأما كلام العلم فله منطق، ومنهج ونهج آخر.
وأما ما يقوله العلم في العلاقة بين العشيرة والعشائرية من جهة والدولة –اي دولة – من جهة أخرى، فيتلخص في أن العلاقة بين العشيرة والدولة لا تحتمل حتى التعايش أو التزامن، فكيف الحال بعلاقة من التكامل أو التكاتف. فالعشيرة والعشائرية تمثل كيانات هي في الجوهر والعمق مناقضة لجوهر الدولة، ومنافس لها، ومقوض لقوتها ولوحدتها، وأن مجرد وجود سياق تحضر به الدولة والعشيرة في نفس اللحظة، فلا بد أننا أمام حالة مشوهة وغير طبيعية تحمل في داخلها صراع داخلي مدمر يقوض بنيان الدولة ويستنزفها. فالعشيرة والدولة هما كيانان متعارضان وكاره كل واحد منهما للاخر، لانها إن اجتمعا فلا بد أن يعيشا علاقة سلطة ذات محصلة صفرية، فأي قوة في سلطة العشيرة تعني مباشرة نقصانا بنفس القدر في سلطة الدولة، كما أن أي زيادة في قوة الدولة يعني حتما نقصانا بنفس القدر والمقدار في سلطة العشيرة. فالعشيرة والدولة هما في الجوهر كيانان متنافسان، ما يضيفه أحدهما من قوة وتأثير هو بالحتم قادم من مما يمتكله الكيان الآخر.
وتتجلى جوانب التعارض والتنافر واستحالة اللقاء بين العشيرة والدولة إلا في السياقات المشوهة، وحيث الدولة لا تمثل الشكل النقي للدولة، والعشيرة لا تمثل الشكل الصافي أو المعياري للعشيرة، كما نعيشه في الاردن وكثير من المجتمعات العربية الشقيقة، تتجلى في كثير من الجوانب التي سوف أتناولها بأكبر قدر من الاقتضاب بسبب ضيق المساحة التي تتحها مقالة صحافية على موقع الكتروني ولجمهور غير متخصص.
فعلى الصعيد الزمني والتاريخي تمثل العشيرة مرحلة من التاريخ الانساني يستحيل معها أن تلتقي مع الدولة الحديثة. فالعشيرة تنتمي إلى المرحلة الثانية في تطور المجتمعات الانسانية التي بدأت بحياة البدائية وحيث صيد الحيوانات، وجمع الثمار هو النشاط الاقتصادي الوحيد. في هذه المجتمعات كان حجم الجماعة الانسانية لا يزيد عن بضع مئات يعيشون حياة مشتركة، وأما العامل الذي ينتج التلاحم والتماسك داخل الجماعة فهو التشارك في علاقات الدم The sharing of blood relatioships . في هذه الجماعات كانت التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية تشمل فقط من يتشاركون علاقات الدم الحقيقية. وكان نطاق التفاعلات وحدودها هو بحدود نطاق علاقات الدم.
مع خروج البشرية من المرحلة الاولى البدائية التي استمرت مئات الاف السنين، ظهرت العشيرة كتنظيم اجتماعي واقتصادي وايكولوجي وتقني وسياسي ليتجاوز الجماعات البدائية The Bands وحيث صارت أعداد الاعضاء المنضوين داخل الجماعة الواحدة أي العشيرة هو بالالاف وعشرات الالاف. وفي العشيرة بقيت علاقات الدم هي أساس صناعة الوحدة والتماسك وهي سبب التفاعلات الاقتصادية والسياسية والامنية. فاذا كنت تتشارك مع الجماعة علاقات الدم فانك جزء من الجماعة وسوف تحصل على كامل الحقوق الخاصة باعضاء العشيرة لانك تتشارك معهم علاقات الدم. ولكن وبسبب كبر حجم الجماعة البشرية واستحالة التأكد علاقات الدم، فقد صارت علاقات الدم متخيلة، وصارت الجماعات تعتقد بعلاقات القرابة بينها بالاستناد إلى جد بعيد هو متخيل وغير حقيقي في كثير من الاحيان. وتعود هذه المرحلة في التاريخ الانسان الى حوالي الثمانية أو تسعة الاف عام قبل قرننا الحالي.
ومع تطور التكنولوجيا وتعقد الاقتصاد وتعقد تقسيم العمل، ومع الكتابة وزيادة اعداد السكان، انتقلت البشرية إلى الاستقرار، وظهرت المدن. وصار الناس يتشاركون المكان، ويعرفون أنفسهم ليس من خلال علاقات الدم والتشارك إلى الجد المشترك وانما من خلال التشارك في الانتماء للمكان. فصار المكان أي المدينة هو الفضاء الذي يحدد حدود التفاعل بين الفرد وبقية الافراد.
وبدلا من صناعة الاقتصاد والسياسة والامن على اساس التشارك في علاقات الدم، صارت التفاعلات تتم بين الفرد ومجموعات الافراد الاخرين على أساس التشارك في مكان العيش أي المدينة، وكان هذا هو التحول الثوري الكبير في التاريخ الانساني. الانتقال من روابط الدم لروابط المكان أي المدينة هي التحول الثوري الانساني، ومن هنا جاءت كل الاشتقاقات والاصطلاحات اللافتة وذات الدلالة في اللغات الأوروبية، فالمدينة هي باللغة الاغريقية Polis ومنها جرى اشتقاق لفظة Polity أي النظام السياسي، ولفظة Policy أي سياسة، ولفظة Politics أي سياسيات، ولفظة Police أي ضابطي أمن المدينة ونظامها، كما كلمات Polite بمعنى للاشارة للشخص المهذب التي تشذبت أخلاقه بأخلاق المدينة متجاوزا حياة مجتمعات ما قبل الاستقرار البدائية. فالمدينة صارت هي أساس صناعة الاجتماع الانساني بدلا من علاقات الدم، والحقوق والواجبات صارت تصاغ لتجمع وتوحد كل من يتشاركون الانتماء للمدينة وليس علاقات الدم، وهنا صار معنى السياسة يعني أن تصنع وتدير أمور الناس انطلاقا من حقيقة تشاركهم المكان نفسه أي المدينة التي تعني أيضا الدولة، لان الدول الاولى كانت عبارة عن مدن كبيرة بمثابة دول.
وفيما سبق يظهر أو تعارضين بين الدولة والعشيرة، وحيث يشير التعارض الاول إلى أن العشيرة تنتمي زمنيا إلى نمط من التنظيم الاجتماعي والسياسي والتقني ينتمي إلى مجتمعات ما قبل التاريخ، في حين تمثل الدولة وتحديدا الدولة القومية Nation State التي بدأت في التبلور بدءا من القرن الخامس عشر، النمط الحديث من الدولة الذي ما زال سائدا حتى القرن الواحد والعشرين. وبالاضافة إلى تناقض العشيرة والدولة الحديثة على صعيد التطور الزمني، تتعارض العشيرة والدولة أيضا على صعيد الجوهر، فالعشيرة هي نمط من تجمع الافراد وتفاعلهم مع بعضهم البعض اقتصاديا ومعيشيا واجتماعيا واخلاقيا وأمنيا بالاستناد إلى علاقات الدم الحقيقية أو المتخيلة، فإن الدولة هي تنظيم واسع يسمح لكل من ينتمي إلى الاقليم أو المكان أو الارض أن يتساوى في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل من يتشاركون نفس المكان.
وينتج عن هذه الحقيقة، واقعة أخرى، ففي حين تمثل العشيرة بناءا اجتماعيا مغلقا لانها لا تسمح بمنح الحقوق ولا بتثبيت الواجبات إلا لعدد محدود من الافراد هم من يتشاركون علاقات الدم، فان الدولة هي بناء مفتوح دائما يسمح لكل من ينتمي للاقليم أو الارض بامتلاك العضوية للأمة أو الشعب طالما أنه ولد أو أقام لسنوات معينة على الارض. ويكفي أن نشير إلى أن الدستور الاردني لا يتحدث إلا عن أردنيين، وحيث لفظة أردنيين مشتقة من لفظة أردن، وحيث تعني لفظة الاردن مكان محدد على الخريطة، وبامكان أي شخص في العالم أن يصبح أردنيا إذا استوفى شروطا معينة أهمها الاقامة على الأرض الاردنية فترة من الزمن.
وبالبناء على ما سبق، فإن من المهم الاشارة إلى تعارض وتناقض آخر بين الدولة والعشيرة، وهو يتعلق بادوار الفرد ومكانته الاجتماعية في كلتا البنائين. ففي حين تهيمن الادوار والمكانات الاجتماعية للفرد في مجتمعات العشيرة بالاستناد إلى مبدأ الوراثة، والى ما يرثه الفرد من اسم أو موقع يرتبط بنسبه للعشيرة أو بفخذ متنفذ منها، وحيث تنتقل الزعامة والموقع الاجتماعي بالوراثة Ascription ، فإن الدولة الحديثة يتحدد موقع الفرد فيها بالاعتماد على مستوى التحصيل وبناء المهارات ومستوى رأس المال الاجتماعي الذي راكمه الفرد بجهده، وعرقه الشخصي Merit . ما ينتج عنه صعوبة أو استحالة للحراك الاجتماعي على صعيد المكانة الاجتماعية في مجتمع العشيرة، في حين تتميز الدولة الحديثة بشكلها الأكثر نقاء بدرجة عالية من الحراك الاجتماعي للفرد صعودا ونزولا داخل السلم الاجتماعي.
وفي حين تقوم الدولة الحديثة على فكرة المساواة بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، فإن البناء العشائري هو بناء لا يتسم بالمساواة مطلقا، ولعدة أسباب. فمجتمع كالمجتمع الأردني تتنوع بيئات أعضائه الاجتماعية بين بيئات ذات جذور رعوية بدوية، وكتلا أخرى تنتمي إلى بيئات فلاحية أقل عشائرية وخضعت العشيرة فيها للتفتيت إلى حد كبير، وكتلا أخرى من المواطنين الذي ينتمون إلى بيئات حضرية ومدينية، عملت المدينة على تفكيك البنى العشائرية التي ينتمون إليها وحولتها إلى اسر نووية صغيرة، وإلى كائنات ومخلوقات أكثر فردية، ما يعني أن إدخال العشيرة في صناعة السياسة سينتج عنه مباشرة خرق لبند دستوري يؤكد على المساواة بين الاردنيين. وفي حين لا يتساوى الأردنيون في خلفياتهم العشائرية، فإن العشائر الاردنية نفسها لا تتساوى في أعدادها وفي احجامها، ما يخلق أساسا جديدا لعدم التكافؤ والمساواة بين الاردنيين. بل إن العشيرة الواحدة تتشكل في معظم الأحيان من فخوذ أو بطون لا تتساوى في النفوذ والمكانة الاجتماعية. ما يضيف عاملا آخرا من عوامل عدم المساواة بين الاردنيين.
وبكلمات أخرى، فإنه وفي حين تعمل الدولة ودستورها وتشريعاتها ومؤسساتها على تكريس مبدأ المساواة بين المواطنين، لإن بناء الدولة هو في جوهره بناء حقوقي مساواتي على صعيد الاطار الحقوقي، فإن مجتمع العشائر، كما مجتمع العشيرة الواحدة هو بناء هرمي، وغير مساواتي على الاطلاق. ما يخلق سببا آخر للصراع بين ماهيتين وبنيتين يختلفان في جوهرهما وطريقة عملها، اي الدولة من جهة والعشيرة من جهة آخرى.
وفي أساب التنافر والتناقض أيضا بين بنيتي العشيرة والدولة، فإن من الضروري الاشارة إلى الصراع بينهما على صعيد امتلاك السيادة وتطبيق القانون. فالجميع يعرف أن الدولة الحديثة لها قانونها المكتوب التي يجب أن تفرضه على كامل الرعايا والمواطنين، في حين تملك العشيرة تراثا غنيا من القوانين غير المكتوبة التي تسمى أعرافا. وفي المحصلة فإن الدولة لها قوانينها، وكذلك العشيرة. وفي حين يقوم المبدأ القانوني على أن كل رعايا الدولة يخضعون لنفس القوانين، فإن وجود البنى العشائرية يعمل على تكريس تعددية قانونية لا تنسجم بالضرورة مع مبادئ قانون الدولة ولا مع غاياته. ففي حين تحاول الدولة تكريس مبدأ المساواة الحقوقية بين المواطنين من خلال المساواة في القوانين والعقوبات الجزائية، فإن قانون العشيرة لا يسير مع قانون الدولة بنفس الانسجام والاتساق، بل نرى وفي كثير من الأحيان استقواءً بالعشيرة من أجل الهروب من التزامات القانون وما يفرضه من جزاءات.
ويبلغ الاختلاف والتناقض بين منطق الدولة ومنطق العشيرة مداه، عندما يتعلق بكيفية تعريف الفرد أو المواطن. ففي حين تزدهر الدولة الحديثة ويزدهر مفهوم المواطنة حينما تزدهر ثقافة التجريد Abstraction وتتحول إلى ممارسة من قبل الدولة في علاقتها بالمواطنين، ومن قبل المواطنين في علاقتهم بالدولة ورجالاتها وصناع القرار فيها. فالدولة الحديثة تعرف كل أعضاءها على أنهم مواطنين مجرد مواطنين كي تنطبق عليهم نفس حزمة الحقوق والواجبات، وكي يحصلوا على نفس الفرص والخدمات. فمبدأ التجريد يقول أنه يكفي أن تعرف الدولة أن الشخص يحمل جواز سفر أردني كي تستحضر مباشرة كل الحزمة الحقوقية من حقوق وواجبات المتعلقة به كمواطن، وتنتهك الدولة مبدأ المواطنة عندما تبتعد عن التجريد، فهي تنتهكه مثلا حين تريد الدولة أن تعرف فيما اذا كان الاردني شماليا أو جنوبيا، مسلما أو مسيحيا كي تتعامل معه على صعيد الحقوق والواجبات كما على صعيد تقديم الخدمات ونوعيتها. ونفس الحال ينطبق أيضا على مجتمع المواطنين، فالدولة الحديثة تقتضي أن يمارس المواطنون التجريد حينما ينتخبوا، أو يمتثلوا لقرار الوزير أو ضابط الامن.
فالتجريد يقتضي أن لا أضيف أي صفات تتعلق بالدين أو المنطقة التي ينحدر منها الوزير، أو العشيرة التي ينتمي إليها كي اناقش قراراته، وكي اناقش سياساته، أو كي أمتثل لسلطاته التنفيذية. وفي حين تقوم الدولة الحديثة على مبدأ رؤية ملايين المواطنين بصورة مجردة، إذ تكفي كلمة فرنسي أو نمساوي، أو أردني كي تحضر كل المنظومة الحقوقية المتساوية والمتكافئة، فإن العشيرة كما الطائفة لا تجعل من الفرد كائنا مجردا أي مواطنا، بل تضيف صفات وألقابا وأنسابا لاسم الفرد ما يلغي مبدأ التجريد الذي تقوم عليه فلسفة المواطنة.
والحال، فإن النقاش في هذه المقالة اقتصر على استخدام بعض المفاهيم والمفاتيح النظرية العلمية لتبيان أي نوع من العلاقة يسود حين تجتمع العشيرة والدولة في نفس المكان، وفي نفس اللحظة الزمنية، ولان النقاش طويل ويتطلب مساحة كبيرة، فلم ارد الخوض أبدا في الوقائع الامبيريقية التي نعيشها واقعا على الار ض في الاردن وحيث نشهد يوميا عشرات التفاصيل على هذه العلاقة المعقدة بين الاثنتين، لنثبت نمط العلاقة الصراعية وغير التكاملية التي تعيشها الدولة والعشيرة. وهو ما قد نخوض فيه في مقالة لاحقة.