الملك المؤسس، والتاريخ الذي لم يُكتب بعد!
عبد الله ابورمان
22-07-2007 03:00 AM
في ذكرى الملك المؤسس، هناك الكثير الكثير مما يجب أن يُقال. وثمّة حقبة لا بدّ من إعادة قراءتها، بموضوعية وهدوء؛لا سيما أن الملك المؤسس ملأ الدنيا في عهده وشغل الناس. وما زال بعض الإعلاميين والكتاب يجد لذة خاصة في التعرّض لتجربة الراحل، وقراءتها إنطلاقا من مواقف منحازة سلفا، ومنسجمة مع قناعات غير قابلة للنقاش أو التغيير! المفارقة، أن الملك المؤسس، وهو المثقف والأديب والقيادي، البارز، ترك إرثا مكتوبا، يمتاز بسعته وتنوّعه وثرائه. وهو إرث متوافر ومتناثر، ويمكن جمعه مما كتبه الملك بنفسه أو من خلال مشاركاته الصحفية أو مساجلاته الشعريّة والأدبيّة مع أدباء عصره، والتي تكشف، بمجملها، جوانب مهمّة من فكر المؤسس واتجاهاته السياسية والثقافية. ومثل هذه المادة الضخمة، في حال إتمام جمعها وتحقيقها، تصلح كأساس متين لدراسات لاحقة، يجريها باحثون ثقات، بعيدا عن التسليم بالقراءات والآراء المسبقة.تاريخ الملك المؤسس حافل بالأحداث والإنجاز والقدرة الاحترافية على التعاطي مع التحديات، من منطلق الاستجابة الواعية. بيد أن أهم ما يمكن أن يقال عن هذه الحقبة: إنها كانت حقبة تأسيس حقيقي، بكل ما في الكلمة من معنى. والملك المؤسس، كذلك، كان مؤسسا لكل ما تخلل حقبته وما تلاها من حراك سياسي- ثقافي، ومن مؤسسات ترسخت منذ عهده وتجذرت. وهي، اليوم، رصيد البلد الاستراتيجي، وعماد قوّته، ونهضته واستقراره.
وبعبارة أخرى، فإن الملك عبدالله الأول لم يكتف بتأسيس نظام سياسي فحسب، ولكنه، أيضا، دفع باتجاه خلق حالة مدنية متقدّمة. وقد أسهم، بشكل مباشر، في نهوض الحركة الأدبية في الأردن، ودعم قيام صحافة وطنيّة مستقلة، منذ عشرينيات القرن المنصرم.. وحفز المعارضة الوطنيّة، لتحتل موقعها المتقدم؛ كركن أساس من أركان النظام السياسي الأردني، و كدعامة لحياة سياسية متنوعة ومتماسكة. وطالما كان الملك ينصف المعارضين، من جور الحكومات، ويأمر بالإفراج عنهم وردّ وظائفهم إليهم، وأكثر من ذلك، فقد كان رحمه الله، ينتقي من أوساط المعارضة الجادّة، رجالات حكمه، ومسؤولي الإدارة الأردنيّة الناشئة.
على الصعيد القيادي، برزت شخصية الملك عبدالله الأول، كأحد أبرز الساسة العرب في عصره. وقد منح ذلك الدولة الأردنيّة الحديثة، حضورا إقليميا ودوليا، فاق، بكثير، حجم إمكاناتها.. وداخليا، منحت شخصية الملك النظام السياسي الأردني جزءا رئيسا من سماتها وخصائصا، فنشأ لدينا نظام يقوم على التسامح والمرونة والطموح اللا محدود، والقدرة اللافتة على التعاطي مع المتغييرات، بل والتحوّلات المفصليّة، بكفاءة عالية، ومع التمسك، المبدئي، بالثوابت الرئيسة.
عند مجيء الأمير عبدالله الى شرق الأردن، كانت الخطوة الأولى هي الاستعانة بخبرات وكفاءات الاستقلاليين العرب، من رجالات الإدارة والقيادة، في العهدين العثماني والفيصلي. ومن هنا، جاء تشكيل الحكومات الأولى في الإمارة، انسجاما مع متطلبات المرحلة وتحدياتها؛ فكانت حكومة رشيد طليع، مثلا، حكومة مجاهدين، بامتياز، وقد ضمّت قيادات النضال العربي في وجه الاستعمار والتقسيم، ومن وزراء هذه الحكومة الشهيد الكبير أحمد مريود، احد أبطال الثورة السورية. وهذه الحكومة، بالإضافة الى مشروعها التحرري الاستقلالي البارز، كانت كذلك، حكومة خبرات وتملكت الإرادة الكافية لإنشاء إدارة أردنيّة كفؤة وقادرة على تكريس مفهوم الدولة في البلاد؛ وقد كان رئيسها العربي الدرزي المجاهد رشيد طليع إداريا متمرسا بالإدارة، وسبق له وأن شغل مواقع استثنائية في العهد العثماني، قبل أن يكون أحد أركان الحكم في العهد الفيصلي. وهو بالإضافة الى ذلك، صاحب خبرة سياسية كبيرة، تجلت في عضويته في مجلس المبعوثان العثماني، والذي كان الملك المؤسس، كذلك، أحد أعضائه، قبل أن تندلع الثورة العربية الكبرى.
وبعد أن تزايدت الضغوط على الأمير والاستقلاليين معا، بدأ الأمير بالاستعانة بنمط جديد من القيادات والخبرات الإداريّة الفذة، مثل: توفيق أبو الهدى وسمير الرفاعي وابراهيم هاشم وعلي رضا الركابي، وغيرهم من أعلام الحكم والإدارة في الأردن.
وبالتوازي، أخذ الأمير بالتمهيد لجيل شاب لتولي مسؤوليّة الإدارة والحكم. وراهن، بشكل كبير، على المتعلمين (المسيّسين، تحديدا) من الوطنيين الأردنيين، الذين سبق لهم وأن انخرطوا في صفوف المعارضة. ومن هؤلاء: سليمان النابلسي، فرحان شبيلات، هزاع المجالي، سعيد المفتي، عبدالحليم النمر وغيرهم من رموز الجيل الذي قاد الحياة السياسية الأردنيّة فيما بعد، وقد حصل على فرصته التاريخية، بدعم مباشر من الملك المؤسس.
لقد كان الملك عبدالله الأول قائدا تاريخيا، بحق. وقد أولى جُلّ اهتمامه لخدمة قضايا أمّته. وامتاز بالمرونة الكافية للصمود بالأردن، في وجه الأعاصير. وكان حلمه الذي ما فارقه لحظة واحدة؛ هو تحقيق أهداف الثورة العربيّة الكبرى، ومشروعها النهضوي التحرري. وكان رحمه الله يقدّر الرجال، وخبيرا في اكتشاف معادنهم. ويذكر أن أحد المتزلفين، سعى في حضرة الأمير للتعرّض لزعيم المعارضة الأردنيّة، آنذاك، المرحوم محمد صبحي أبو غنيمة، فوبّخه الأمير، وأكد له أمام الحضور احترامه لهذه الشخصيّة، و إيمانه بانتماء صاحبها وإخلاصه لبلاده ولمبادئه. وعندما ضاق صدر المرحوم توفيق أبو الهدى بشاعر الأردن مصطفى وهبي التل ونجله الشهيد وصفي والمرحوم عبدالحليم النمر، وزج بهم جميعا في السجن؛ تدخل أمير البلاد وأمر بالإفراج عنهم..
والأحداث والتفاصيل أكثر بكثير من أن تتسع لها هذه المساحة.
ويبقى القول؛ إن إرث الملك عبدالله الأوّل، الفكري والأدبي والسياسي، ومع التقدير التام لكل الجهود الجبارة، التي بذلها باحثون أردنيّون مخلصون؛ ما زال بحاجة الى الكثير من الجهود والدراسات؛ فالتاريخ العلمي الموضوعي، لشخصية المؤسس وحقبته؛ لم يُكتب بعد. ومازال التفسير الانتقامي السياسي للتاريخ هو السائد، حتى الآن، ولصالح قراءات نابعة من كراهية وحقد على هذا البلد ومشروعه وإنجازاته.
abdromman@yahoo.com