الواسطة بلاء أزرق .. رسالة تلقيتها من صديق
أ.د عمر الحضرمي
19-01-2011 09:06 PM
في أحد أيام منتصف الستينيات من القرن الماضي، اضطر صائب سلام، وهو رئيس وزراء لبنان آنذاك، وكان معروفاً بالصرامة وقوة الشخصية والإبداع في إدارة الدولة، اضطر إلى أن يذهب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ليناقش أمراً مع رئيسها حينذ، نورمان بيرنز، يتعلق بقضية طلابية مهمة وعامة، ولمّا أن وصل إلى مبنى رئاسة الجامعة، وصعد إلى مكتب الرئيس لم يجده هناك لعدم ترتيب موعد مسبق. وسأل صائب سلام إن كان أحد من أعضاء الإدارة موجوداً، فذكروا له أن المسجل العام فريد حنانيا هو الوحيد الموجود في مكتبه. نزل صائب سلام إلى الطابق الأول ودخل على السكرتيرة فاستأذنت منه لتبلغ رئيسها، الذي سألها هل صائب بيك قد جاء بموجب موعد كنت قد رتبته له، فلما نفت قال لها، اعتذري له. وبالفعل خرجت السكرتيرة لتعتذر لرئيس الوزراء عن إمكانية لقائه مع المسجل العام. ضحك صائب سلام، وقال لها باللهجة اللبنانية، "هيك بيكون أستاذ الجامعة ومسجلها وإلا فلا".
هذه الحادثة تخطر على بالي كلما انتهى فصل من فصول الجامعة. وتخطر على بالي كلما رأيت ما يجري في ساحات الجامعة. وتخطر ببالي كلما أثير موضوع أستاذ الجامعة ورئيس الجامعة في الأردن. وتخطر ببالي كلما تعرضت، والكثيرون مثلي، إلى ضغوطات المحسوبيات والتوسطات والواسطات والجاهات التي تتجاوز في كثير من الأحيان حد الاحتمال. بل وأني فقدت بعضاً من أصدقائي وخسرت بعضاً من علاقاتي بسبب رفضي قبول المجاملة والواسطة في أمر هو من أخطر الأمور، ألا وهو التعليم الجامعي.
طالب أو طالبة يتغيب عن سبع عشرة محاضرة، أي بتجاوز عشر محاضرات عن الحد المسموح به وهو سبع محاضرات، وما أن ترفع الاسم إلى المسجل العام للحرمان حتى تنفتح عليك أبواب جهنم. هذا ما حدث ويحدث معي ومع كثيرين من زملائي في كل فصل دراسي. الكل يريد أن يبيض وجهه على حساب العدل والقانون والقيم التعليمية، بل وأن لا أحد من المتوسطين قد كلف نفسه مساءلة الطالب أو الطالبة لماذا تغيب أو لماذا أهمل دراسته. أحدهم، وهو نائب، اتصل بي، داخلاً من معبر المعرفة غير المباشرة، متوسطاً بقضية طالبة وضع اسمها على قائمة الحرمان. فلما أن قلت له إن هذه الطالبة قد تجاوزت الحد المسموح لها بالغياب قال "أنت أبوها وسميها". فلما أن سألته كيف ارفع اسمها عن قائمة الحرمان ومعها ستة طلاب، وهل يرضى أن أكون فاسداً إلى هذا الحد، لم يرض بالجواب. وأخاله اعتبر رفضي لواسطته خروجاً عن المبدأ. وكذلك فعل شخص قيل لي أنه من جهاز أمني معين.
طالب يقدم ورقة امتحانه النهائي بيضاء لم يخط فوقها إلا اسمه، فكيف يجد "الواسطة" قدرة على الحديث في موضوعه. وكيف يجرؤ أن يطلب "تنجيح هذا الطالب" وأي ضمير يريد أن يقتله، وأي بلد يريد أن يدمر.
الأمر فيه قلق ويثير خوفاً على المسيرة التعليمية في بلدنا، أنا أعلم أن الواسطة تدخل لتعيين شخص في وظيفة ما، وهذه أيضاً آفة، إذ يجب أن توكل كل وظيفة إلى مستحقها، ولكن أن يصل الأمر إلى الجسم التعليمي والجامعي خاصة، فهذه كارثة.
ولعل الأمر الوحيد الذي يريح أن كل زملائي في الجامعة الذين تم الاتصال بهم من قبل "الواسطة" كانوا يتصلون بي ويقولون افعل ما تراه صائباً "ولا ترد على واسطتنا".
أحد المسؤولين الكبار اتصل بي في يوم من الأيام وكنت قد رفضت له واسطة عبر شخص ثالث، بخصوص طالب في الجامعة، وقال لي بالحرف الواحد "والله لو أنك قبلت واسطتي لسقطت من عيني ولخفت على البلد من تدهور التعليم فيها".
الجامعة مؤسسة شريفة وخطيرة وهامة ومركزية، وأي خلل يصيبها يطيح بركن هام من أركان الدولة، إذ معنى ذلك أننا سنبدأ نضخ للمجتمع مواطنين مملؤين بالفساد والواسطات، وعندها لن نستطيع أن نكبح جماح الانهيار.
صديق لي يدرّس في أحدى جامعات الجنوب اعتاد نهاية كل فصل أن يغلق هاتفه ويخبئ سيارته حتى ينتهي من تصحيح الأوراق ورصد العلامات وغير ذلك فإنه يقول أكاد أصاب بالجنون.
أرجوكم اتركوا الجامعات تدير العملية التعليمية بحق الله وأنبيائه ورسله وكتبه وملائكته.