يشغل محمود عباس منصب رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أو دولة فلسطين، حسب درجة الاعتراف المتباينة من دولة إلى أخرى، ولكنه، يشغل منصباً لا يقل أهمية ولا تعقيداً في رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية.

أعلنت المنظمة ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر القمة العربية في الرباط تشرين أول 1974، وأتى القرار بسقف طموحات مرتفعة ليرتب التصورات الخاصة بالقضية الفلسطينية والتي حملها الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة في خطابه الشهير بعد ذلك بأيام الذي اختتمه بعبارة (لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي).

النقطة الأولى في الاعتراف حملت طموحاً وافتراضاً تأسيسياً يتمثل في تأكيد حق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره، وهو ما تبين مع الوقت أنه غير قابل للتطبيق لأسباب تتعلق بالديموغرافية لتتطور لتصبح صراعاً وجودياً مع دولة الاحتلال، والواضح أن الصراع تواضع كثيراً ليصبح أقل من صراع حدودي بعيد عن المزاحمة الوجودية. صراع حول مساحة هنا أو هناك في المناطق (ج) في الضفة الغربية.

تمكن الأمريكيون من قيادة الرئيس السادات تحت تأثير نشوة الكاميرات وجائزة نوبل للسلام، وأتت نفس الوصفة أكلها مع الرئيس عرفات، مع وجود ضغوطات عربية واضحة وصلت إلى ذروتها في حفل توقيع اتفاقية السلام في القاهرة في الرابع من أيار 1994، ووقتها كان عرفات مدركاً أن هامش المناورة أمامه محدود للغاية، بعد أن استنفده في صراع التنظيمات الفلسطينية ومرجعياتها العراقية والليبية والسورية، بالترافق مع جفوة أردنية لم تصل إلى مرحلة القطيعة في تلك المرحلة.

هذه الصراعات كانت تمضي في عكس اتجاه نقطة تأسيسية في تطويب منظمة التحرير الفلسطينية تنص على التزام جميع الدول العربية بالحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للعمل الفلسطيني، ولكن الحرب الأهلية اللبنانية والفصل المتعلق بحرب المخيمات أظهر مدى هشاشة هذا الالتزام الرومانسي، والمتناقض جوهرياً مع فكرة العمل السياسي ومصالحه المتغيرة وتفاعلاته، والمفارق بصورة صارخة للخبرة التاريخية للعلاقات العربية التي يعد عدم التدخل خارج أدبياتها لترافق مرحلة التأسيس للدولة الحديثة في المنطقة العربي? مع صعود التيارات القومية وصياغتها للفكر السياسي في مرحلة ما بعد الاستقلال.

الأدهى، أن هذه النقطة أتت غير متوافقة مع النقطة التي سبقتها، والمتمثلة في دعوة الأردن وسوريا ومصر، ومنظمة التحرير، لوضع صيغة لتنظيم العلاقات بينها في ضوء مقررات القمة ومن أجل تنفيذها، والتفاصيل في هذا السياق كثيرة، بعضها سياسي والآخر استراتيجي ينبني على تباين ظروف وإمكانيات ورؤى هذه الدول بحيث يجعل توافقها في تلك المرحلة متعذراً، وفي مراحل كثيرة لاحقة، ويلقي على الفلسطينيين عبء الخروج بنتيجة ما من هذه المهمة المستحيلة.

على الرغم من ذلك، تمكنت المنظمة من تحقيق قدر من القبول لدى الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة وفي محطات الشتات المختلفة، وبينما كانوا يهتفون ليسمعوا العالم أثناء الانتفاضة الأولى PLO Israel No، تمكنت المنظمة، من خلال أدواتها الإعلامية والثقافية والتنظيمية في صورة جمعيات واتحادات، من خلق حالة من التضافر والتوافق بين الفلسطينيين ليكون إعلان الدولة الفلسطينية، الجزائر 1988، على الرغم من الخلل السياسي والعملي، لحظة رمزية على قدر كبير من الأهمية، مثلت ذروة دور المنظمة بين الفلسطينيين، ولم يكن ذلك ليتأتى واقعياً م? غير قرار الملك الحسين، رحمه الله، بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية لتدشين حل الدولتين ووضع الضفة الغربية أرضاً يمكن للفلسطينيين تحويلها إلى ورقة تفاوضية مباشرة.

مرت مياه كثيرة تحت الجسر، كم يبدو المثل الإنجليزي قاصراً ومحدوداً في وصف تغير الأحوال بين 1988 واليوم، فذلك الجسر مرت من تحته دماء كثيرة أيضاً، كانت دماءً فلسطينية، وتكسرت تحته عظام فلسطينية أيضاً، وضاعت أعمار فلسطينية طويلة تحته، واليوم، وبعد هذه السنوات يظهر واقعين أو أكثر للشعب الفلسطيني، فلسطين السلطة أو مشروع الدولة، وفلسطين الشتات، وكما أتت السلطة بعيدة عن التصورات التي حملتها في البداية وتعثرت في التفاصيل وشياطينها، فقدت المنظمة قدراً كبيراً من مكانتها الرمزية بين الفلسطينيين وتراجعت أدوارها في التج?عات الفلسطينية وبين الأجيال الجديدة على وجه التحديد.

موقف الأردن الواضح بتعزيز ودعم السلطة الوطنية الفلسطينية لإنجاز حل الدولتين الذي تبنته الأردن بصورة معلنة وعملية مع فك الارتباط، يجب أن يتواصل مع دعم وتعزيز منظمة التحرير الفلسطينية، والتأكيد على أن الأردن هو الأقرب إلى الشعب الفلسطيني وإلى القضية الفلسطينية، والأمر يرتبط بمستقبل القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على المدى التاريخي الأبعد من إنجاز الملفات العالقة تجاه الحلول النهائية، إن كانت موجودة أو متاحة.

الحرص على مستقبل السلطة واستمراريتها هدف وطني، والمسؤولية تجاه منظمة التحرير غاية قومية من الضروري استعادتها، وعلى الأقل، عدم تغييبها حتى لو كان أهل السلطة يقولون بلسان حالهم: فينا اللي مكفينا!

الرأي