لا هذا اليسار يسارنا ولا هذا اليمين يميننا
اللواء محمد البدارين
05-08-2023 10:42 PM
في تلك الأيام العصيبة ، كنا نراقب فلول اليمينيين الهاربين عبر كل المعابر طلبا للسلامة ، وفي الوقت نفسه ، كنا نتابع خطابات اليساريين الهائجة في ردهات فندق الأردن بجبل عمّان ، الذين انتصروا توا على الركاب المدنيين وفجروا الطائرات المخطوفة في (مطار الثورة ) بمنطقة قيعان خنّا ، واقتادوا الركاب رهائن واخفوهم في أماكن متفرقة ، فيما شعارات اسقاط النظام العميل ، وكل السلطة للمقاومة ، تسد الافق في شوارع المدن الأردنية ، ويتردد صداها عبر اثير الإذاعات ، وسلطة الدولة آخذة في التلاشي يوما بعد يوم ، الى الحد الذي اصبح فيه عاديا ان توجه للملك أسئلة صحفية علنية مثل ( هل انت فعلا سيد الأردن ، هل انت مستعد لتغيير اسم بلادك ، هل انت مستعد للتنازل عن العرش ).
لكن المشير حابس المجالي العائد توا للخدمة قائدا للجيش ، والمعيّن من قبل الحكومة العسكرية حاكما عسكريا عاما للبلاد ، كان يحتفظ بكل هدوئه ، ولم تتشوش فطنته في معرفة الأوزان الحقيقية للأشياء والأشخاص وكل الأمور ، حتى استغرب المراقبون ، قلة قيمة الجائزة المالية التي خصصها لمن يدلي بمعلومات تساعد في القبض على الزعيمين اليساريين البارزين ، جورج حبش ونايف حواتمه ، البالغة 500 دينار اردني فقط ، دون توضيح فيما اذا كانت الجائزة على أي منهما ام على الرجلين معا.
وفيما بعد ، سيتضح ان المشير كان اعرف بكل اليسار وكل اليمين ، فهذا نايف حواتمه الذي يطلق على جبهته اسم الديمقراطية ، لا يزال يتربع على عرشها كحاكم ابدي منذ انشقاقه عن رفيقه حبش ، الذي ظل هو الاخر يترأس الجبهة الشعبية حتى قبل وفاته بقليل ، ولأن الحال من بعضه ، كانت تلك هي حالات الامتدادات اليسارية واليمينية والقومية والإسلامية والعشائرية في الأردن والعالم العربي عموما ، فكما يرث الأولاد دكاكين ابائهم ، بات من المألوف ان يرث الأبناء في المشرق ، وفي المغرب أيضا ، دول ابائهم والأحزاب والمنظمات والوزارات والثروات ، ومن بين الأمثلة الكثيرة التي يعرفها كل الأردنيين وكل الفلسطينيين وكل العرب ، يحلو لنا ان نشير الى ابن الرفيق احمد جبريل الذي يتزعم الان جبهة والده بكل ثقة واقتدار ، واضعا جبهته في قلب محور المقاومة والممانعة لاستمرار الكفاح ضد الامبريالية والصهيونية والمؤامرات الكونية ، انها قصص معروفة للصغير والكبير ، وبات الكلام فيها مملا ، لولا ان السيدة رغد كسرت الرتابة والملل ، بنشرها خارطة نسبها الشريف ، وهي تتحفز لخدمة العراق وشعبه ، العراق الذي استولى على حكمه والدها ورفاقه عام 1968 ، كدولة مستقلة ذات سيادة ومزدهرة ، ثم تركوه قاعا صفصفا.
ومن بين كل العواصف ، كانت المدرسة السياسية الأردنية الطالعة منتصف القرن الماضي ، تزدهر بالأفكار والرجال والقادة ، بالتزامن مع كل الانحطاطات السياسية المعدية التي كانت تستشري كوباء في الجسم العربي ، حيث تفوق وصفي التل بفكره التقدمي العميق وقوة بصيرته وسلامة اختياراته ، على كل الاتجاهات اليمينية واليسارية الهائجة ، وكرس نهجا اقتصاديا اسكندنافيا بروافع فكرية متصلة بالواقع الحقيقي ، في سياق فهم متكامل لطبيعة النمو السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الأردني والمجتمعات العربية ، بوصفها مجتمعات تعاني من التخلف ، وتنتمي لما تسميه المؤسسات الدولية تلطفا وتشجيعا ، مجموعة الدولة النامية.
وحين هبت رياح العولمة ، أصيب يسار الساحة الأردنية بلوثة الليبرالية الجديدة تحت غطاء التيار المدني ، واختلطت بقايا اليسار مع ما يسمى اليمين مع عشائريين متزايدين ، واسلاميين اخوانيين وغير اخوانيين ، مع ما يمكن تسميته متفرقة ، في مشهد وطني عام ، لا نملك اية ادلة ، تثبت انه وطني او انه عام ، لكنه هكذا يوصف في ادبياتنا العشوائية المنتشرة من اقصى اليسار الى اقصى اليمين ، وتعبر عن نفسها بشكل فلسفي باذخ في الجاهات التي يقودها عادة رجالات النخب من كل الاتجاهات.
وسنة بعد أخرى ، كانت المدرسة الأردنية تتوسع في ما يسمى سياسات الاحتواء والاستقطاب ، الى حد المبالغة الزائدة عن الحد ، بشكل أدى لمزيد من الاضرار في بنية مؤسسات الدولة وأجهزتها وسلطاتها ، وتحت عناوين خادعة ، صار ممكنا تسويق الأفكار والأشخاص والقرارات وبيع زيت الزيتون بزجاجات كالعطور ، وعرض البترول المكتشف بزجاجة أيضا وبيد ناعمة ، وتراجعت الى حد كبير قدرة الدولة العميقة على معرفة الاوزان الحقيقية للأشياء والأشخاص والتدقيق في فحوى الأمور ، وعلى اكثر من صعيد كان هناك اكثر من دليل على مظاهر التقصير ونتائجه وانعدام القدرة على الاتصال والمواجهة ، وشيوع لغة التبرير والتسطيح في الخطاب الرسمي وشبه الرسمي ، فلا يزال المسؤول الأردني يدعو مستمعيه لمقارنة الوضع بالمحيط لا بالمدينة الفاضلة ، وكأنه لا يزال هناك دول في المحيط للمقارنة معها ، او كأن واحدا من الناس يطالب بالمدينة الفاضلة ، والحقيقة ان اللغة الرسمية باتت مصابة بداء الفقر وانعدام المنطق المتصل بالواقع ، وهي تكرر منذ سنين طويلة ، عبارات فاقدة للمعنى ، مثل ، العقل السليم في الجسم السليم ، لا توجد عصا سحرية ، العدالة المطلقة في السماء ، وتدعو أحيانا لمزج الطبخات لتعزيز الوحدة الوطنية ، يقولون كل ذلك ، وكأن ستيفين هوكنغ كان سليم الجسم ، او كأن هناك اردنيا واحدا يطالب بالعدالة المطلقة لا العدالة النسبية ، او كأن هناك من يعتقد بوجود عصا سحرية فعلا ، او كأن الانقسامات في المجتمعات بسبب أنواع الأطعمة والمشروبات ، انها حالة محزنة ان تصل ادبيات المدرسة السياسية الأردنية الى كل هذا المستوى من التسطيح.
يطول الشرح ، لكن الحلول السهلة هي تلك التي باتت الدولة تجنح لها ، بالمبالغة بتغليظ العقوبات في قوانين معينة ، في حين ان قوانين كثيرة ذات أهمية اكبر لا تجد من يطبقها او ربما من يعلم بوجودها ، فليس هناك شيء اسهل من الاجبار والارغام وفرض الغرامات والعقوبات لدى الدولة صاحبة القوة القاهرة ، لكننا نتوقع من الأردن ان لا يخشى الحلول الصعبة الأكثر نجاحا وعمقا وفاعلية ، ولم يعد مقبولا او منطقيا مقارنة الأردن ببلدان مثل لبنان وسوريا والعراق ، فهذه بلدان كانت دول سابقا ، ولا داعي ان نظل نردد عبارات المرحوم محمد امين في تقريره التلفزيوني الشهير ، قارنوا أنفسكم بالصومال والسودان ، فبمثل هذه المقارنات سنتراجع الى نقطة الصفر ونحن مسرورين باحتفاظنا بالمرتبة الأولى في ما يسمى المحيط.
اننا ونحن من جملة المؤمنين حقا بقدرة الأردن على احراز التقدم الحقيقي ، لن نستسلم لخطابات المرتدين والمؤلفة قلوبهم والضائعين ، وسنظل نؤمن بأن الأردن وطن لا شبيه له بين الأوطان.