الموالاة وإدارة الوعي العامّ
د.طلال طلب الشرفات
05-08-2023 10:32 PM
غريب أمر هذا الوطن؛ فحينما تكون مواليًا للنظام السياسي والمسار العام للدولة عليك أن تبرّر وتدافع عن كل كلمة تقولها، أو موقف تنهض به، بل إنّ مشاعر الكراهية والغمز واللَّمز تلاحقك بالإيحاء، أو الهجوم المباشر وكأنّنا ندافع عن دولة معادية أو وطن لا يعنينا، ولعلّ نكوص النُّخب الذين أنتجتهم الدولة هو أحد الأسباب الرئيسة التي مرّدت لغة الغضب، وأدّت إلى مصادرة الرأي، واحتكار الحقيقة، وبقيت الحقيقة معلّقة في منتصف المسافة بين شهوة السلطة واسترضاء الشارع بصمت لا يليق، ولكنّنا مستمرّون في الدفاع عن مشروعنا الوطني بثقة وعزم لا يلين.
في مناقشة قانون الجرائم الإلكترونية غابت الموالاة عن دفاعها السياسي الواعي في مواجهة قوى المعارضة التي قدّمت سرديّة تاريخية بنقد لاذع، ووصف ممنهج برسائل مشفَّرة للشارع، وعبارات منتقاة لتجنّب حرج الموقع، في حين أن الموالاة اكتفت بالتصويت لصالح المشروع ظانّة في ذلك أنها دحرت المعارضة التي اختطفت الشارع لمصلحتها، واجتذبت الرأي العام إلى جانبها، ولم تقوَ الموالاة على تقديم خطاب موازٍ يقنع الناس بمخاطر انفلات الفضاء الإلكتروني على السلم الأهلي إلا من زوايا قانونية تصدّى لها مقرّر اللجنة القانونية.
ثمَّة خلافات عميقة وجذرية أعرفها بين شخوص المعارضة في الأعيان، ولكنهم توحّدوا واتّحدوا في موقفهم السياسي تجاه المشروع، وطرحوا أنفسهم "كحركة تقدمية" في مواجهة "رجعيّة" الموالاة من غير أن يسموها، وكأنّ الموالاة لا تملك خطابًا في مواجهة هؤلاء، وكسبوا الجولة مع الشارع بالضربة القاضية دون أن ندرك أنّنا بهذا السلوك نتّجه نحو تغيير بنية الدولة وثوابتها التي رسّخها البناة الأوائل منذ التأسيس.
بين الخطاب السياسي الناجز "وحديث المضافات" هوَّة عميقة آن أوان ردمها، ومسافات مقلقة آن لها أن تضيق، وإذا كنّا نؤمن بأنّ مشروع التحديث السياسي يقتضي مشاركة الجميع دون استثناء، وضمن فسيفساء سياسيّة وفكريّة واعدة؛ إلا أنّ مشروع الدولة الحديث القائم على الحفاظ على هُويّة الدولة ولونها وإرثها التاريخي وثوابتها الوطنية الراسخة لا نقبل اختطافها بسبب نكوص هنا أو إهمال هناك أو سوء تقدير في مكان ثالث، وهذا يتطلب توحّد قوى المحافظين ومَنْ ساندهم من قوى الموالاة الأخرى؛ لإعادة الأمور إلى نصابها دون إبطاء.
" النميمة السياسية" و"الحرد الخفيّ المشفّر" و "والوقيعة" وكلّ مظاهر إضعاف الدولة وخطابها الوسطي المحافظ التي أرهقت كاهل الدولة وسبل نهوضها؛ كلّها مظاهر مؤذية، وتستدعي نكران الذات، وانتهاج أساليب جديدة للعمل الوطني، تتقدّمها مضامين الوعي، وإدراك مخاطر بعثرة الجهد، وإذا كان هذا المشروع سيمضي بما يحقّق مصلحة الوطن، فالرِّهان الكبير يكمن في الحذر مما هو قادم.