عالم الأقطاب كنتيجة للعملية الخاصة
د.حسام العتوم
05-08-2023 10:47 AM
قبل ميلاد الاتحاد السوفيتي عام 1922 أي بعد ستة أعوام على اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 كانت العهد للامبراطوريات الروسية القيصرية ، و المغولية ، و البريطانية و غيرهم ، وسبق نابليون بونابارت كل الحروب عندما هاجم روسيا عام 1812 وفشل ، وساد الأعتقاد بعد ذلك بأن الحرب العالمية الأولى – الأوروبية 1914/ 1918 ستكون الاخيرة ، و أظهر الغرب أي أمريكا و بريطانيا تلاحما مع الخندق السوفيتي المواجه للنازية الهتلرية الألمانية في الحرب العالمية الثانية 1941/ 1945 ، و شكلوا معا نظام الأمم المتحدة لحماية العالم من الحروب الكبيرة ، ولكي لا تتكرر ، لكن الغرب الذي ساند السوفييت في الساعات الأخيرة في الحرب الثانية لم يكن يتوقع النصر السوفيتي الساحق و رفع العلم فوق الرايخ الألماني ، وكان من مصلحتهم الانفراد في قيادة العالم من وسط القطب الأوحد الغربي ، وشهد الزمن السوفيتي مهاجمة اليابان لهم و خسران جزر الكوريل والى الأبد ، و هو الذي ردت عليه اليابان بموقف مساند لأمريكا في قيادتها حربا بالوكالة عبر العاصمة الأوكرانية " كييف " وبهدف استنزاف روسيا الاتحادية العظمى ، و لكي لا تنهض عسكريا خاصة أكثر ، و اخترع الأميركان قنبلتهم النووية عام 1945 و جربوها فوق اليابان في حادثتي " هوريشيما و ناكازاكي " بحجة وضع حد للحرب ، ومنذ اختراع السوفييت لقنلبتهم النووية في المقابل عام 1949 وحتى الساعة اعتبروها رادعة ، و نقلوها بعد انهيار الأتحاد السوفيتي الى روسيا ، وشاهدنا فرعا لها مؤخرا في بيلاروسيا ردا على امتداد الناتو شرقا صوب الحدود الروسية .
وعاش العالم طيلة القرن العشرين حربا باردة طويلة المدى بين المكون السوفيتي و الغربي الأمريكي ، و رغم تصعيدها مع غزو السوفييت لأفغانستان عام 1979 ، و تحولها لسباق تسلح ، و اختلافات في المواقف بشأن القضية الفلسطينية العادلة التي ساندها السوفييت بقوة بالمقارنة مع الموقف الغربي و الأمريكي المراوغ حولها ، كانت اللقاءات السوفيتية و الغربية و الأمريكية الرئاسية مستمرة و لم تنقطع ، و استمر الخط الساخن العسكري عاملا لضمانة عدم وقوع حرب ثالثة مدمرة للحضارات و للبشرية لا يحمد عقباها ، و شكل العبث بمصير الأتحاد السوفيتي نقطة تحول تجاه صراعات جديدة داخل المنظومة السوفيتية السابقة نفسها بين روسيا و جورجيا عام 2008 ، وفي أوكرانيا عام 2022 ، وكان و لازال الغرب الأمريكي على
خط الصراع بهدف اشعال النيران وسط المنظومتين السوفيتية السابقة و السلافية أيضا ، و لم يبحث الغرب يوما عن مصلحة جورجية أو أوكرانية ذات علاقة بسيادتهما .
وكانت روسيا الاتحادية دائما ترفع صوتها عاليا تزامنا مع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 و الى الامام مطالبة بضرورة تشكل عالم متعدد الأقطاب ، و أصبحت هي تقوده بنفسها ايمانا منها بأن الغرب و بقيادة الولايات المتحدة الامريكية يسعى للهيمنة على أركان العالم و يبحث عن مصالحه الاستراتيجية فقط ، و بقيت روسيا تحافظ على جبروتها و قوتها رغم انفصال الغطاء السوفيتي عنها ، و استمرت تتعاون مع البناء السوفيتي السابق ، و حولته لتحالف اقتصادي و عسكري جديد تحت مسمى " CNG " ، ومع تحريك روسيا لعمليتها العسكرية الخاصة المحدودة تجاه الأراضي الاوكرانية السابقة " الدونباس " بتاريخ 24/ شباط / 2022 ، وبعد ضمها لاقليم " القرم " سابقا عام 2014 بعد انقلاب " كييف " الثوري الذي اعتبرته غير شرعي ، وهادف لطرد الحضور الروسي من وسط الاراضي الأوكرانية ، و بعد رصدها لثورات البرتقالية منذ عهد الرئيس الأوكراني ليونيد كوجما عام 2007 ، عقدت روسيا العزم و قررت الانفصال عن القطب الغربي والتوجه بجدية للتعاون مع أقطاب شرق و جنوب العالم " الصين ، و كوريا الشمالية ، و البلاد العربية ، و افريقيا " ، و لازالت تراهن بقوة على تحقيق نصر أكيد ليس في عمليتها العسكرية الخاصة التي حركتها بقرار جماعي لقادة قصر " الكرملين " بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين فقط ، وانما بتشكيل عالم متعدد الأقطاب متعاون و يرفض الهيمنة الغربية .
فماذا يعني عالم متعدد الأقطاب أكثر في تاريخنا المعاصر في ظل محاولة القطب الواحد التمسك بسلطته و هيمنته على أقطاب العالم ؟، و الادعاء بأنه العادل و الباحث عن تعزيز و ترسيخ سيادات الدول و في مقدمتها أوكرانيا " كييف " عبر تزويدها بالسلاح الحديث و بقيمة دولارية وصلت الى 200 مليار دولار الى جاب المال الأسود ، وضخ الفوبيا و الدعايات الرمادية و السوداء بوجه روسيا الاتحادية العظمى و القطب الناهض العملاق مساحة و على مستوى المصادر الطبيعية و الاقتصاد ، و المتفوق عسكريا على المستووين غير التقليدي النووي و التقليدي ، و صاحب الحضور القوي على مستوى تجارة السلاح و نشر المفاعلات النووية السلمية في العالم الصديق لها ، فكل دول العالم في الشرق و الجنوب أصبحت تعي رسالة موسكو أكثر ، بمعنى أن الاستقلال بالقرار الوطني لأي دولة على خارطة العالم تعني ابتعادها عن سيطرة القطب الأوحد على سياستها الخارجية و الداخلية ، و بأن التعاون الدولي طوعي و ليس ابتزاز ، و بأن عصر تصدير الحروب و الصراعات و الأزمات و الانقلابات أصبح مكشوفا ، و بأن لا مكان بعد اليوم لما يسمى بالعقوبات الاقتصادية الغربية السرابية المؤذية ، و بأن عالم الأقطاب المستقلة قادر على مواجهة مؤامرات الغرب عبر التعاون الاقتصادي و العسكري و الثقافي و الاجتماعي و الاعتماد على الذات ، وهذا لا يعني عدم التعاون مع الدول الغربية على انفراد ، فهكذا تفعل الصين عندما تقيم علاقات مع فرنسا وغيرها مثلا ، ولكل دولة عالمية كانت كبيرة أم صغيرة سفارات و علاقات دولية حسب منظورها الاستراتيجي الوطني و القومي .
ولكي ينجح العالم أكثر في تحولاته ومنها التصدع القادم و المحتمل بين أوروبا و أمريكا و بين الأتحاد الأوروبي و أمريكا مع بقاء حلف ( الناتو ) في مكانه و توسعه تجاه السويد و فنلندا ، سيفتح المجال أمام توسع روسيا تجاه حلفائها مثل بيلاروسيا و غيرها نوويا، و لا تعتبر روسيا في توسع دول " الناتو " خطرا ، لكنها تعتبر بأن الخطورة عليها تكمن في نشر الترسانة النووية صوبها ، وهي في المقابل تملك قدرات نووية مماثلة وحتى أكثر ضخامة و قوة للرد على اماكن انتشار الصواريخ النووية ، وهي معروفة لديها ، و أي تخطيط و تفكير غربي تجاه حرب عالمية نووية محتملة هو في غير مكانه بكل تأكيد ، ومن لا يعرف عن قوة روسيا الاتحادية النووية وحدها ، و هي التي تملك أكثر من 6000 رأس نووي يجهلها فعلا ، و لا مخرج لدول العالم الكبيرة خاصة غير البحث عن السلام و التنمية الشاملة النافعة للبشرية ، و لم يثبت العلم حتى وقتنا هذا في القرن الواحد و العشرين وجود امكانية لتواجد الانسان على كواكب الأرض الأخرى ، و لا يعتقد بوجود مثل هذه الامكانية لا حقا والله أعلم.
وهو الأمر الذي يتطلب من أمم العالم التمسك ببعد النظر و المحافظة على حياة الانسان ، و تركيبة مجلس الأمن الأصل أن تتغير بحيث توسع من شبكة المشاركات الدولية في صنع قرارات " النقض " الفيتو ، و هيئة الامم الواجب أن تتغير لتثبت بأنها قادرة على تفعيل قراراتها الدولية ، و محكمة العدل الدولية الأصل أن يتم تفعيل قراراتها أيضا ، و المطلوب منع تغول أحادية القطب داخل كبريات المؤسسات القانونية في العالم مثل حقوق الانسان ، و الأمم المتحدة ، و مجلس الأمن ، و المحكمة الدولية ، و محكمة الجنايات الكبرى ، و مثلما يطالب الغرب بمحاكمات لرؤساء دول لا ينسجمون مع سياساتهم ، أصبح مطلوبا محاكمة دول الغرب التي تدعي بأن سيادة اوكرنيا مثلا تعنيها ، بسبب تزويدها ل " كييف " بالسلاح و المال الوفيرين بدلا من مساعدتها على قبول الحوار من أجل السلام . ولكي تنتهي الحرب الأوكرانية مثلا ، فأن المطلوب هو أن يرفع الغرب يده بالكامل عنها ، و لأن تقبل " كييف" بسلام الامر الواقع أو الممكن ، بمعنى تقبل بدولة اوكرانية من دون أقاليم " القرم و الدونباس " المحررة روسيا ، أو البحث في ايجاد نظام سياسي في " كييف " يسنسجم مع روسيا و لا يماحكها و لا يتآمر عليها ، و يقيم علاقات و كما يريد مع الغرب من زاوية السيادة و الاستقلال ، وعلى الغرب تفهم العلاقة التاريخية بين روسيا السوفيتية و جيرانها ومنهم الأوكران ، ولا داعي لحشر الأنف في أتون الخلاف بينهما .