المنطقة بين التصريح والتلميح
د. رجائي حرب
03-08-2023 02:15 PM
ربما يستغرب البعض من الطرح (الواقعي) الذي أطرحه اليوم في هذه السطور التي أقدم من خلالها مقالتي لهذا الشهر ولكن عزائي الوحيد هو أن جموع قُرَّائي على درجة من الوعي والاحساس بما يقف خلف كلماتي من معاني أخفيها، ولا يمكن التصريح بها؛ لأن الأيام علمتني أن ليس كل ما يعرف يقال، وهذه من الضوابط التي تقتل التفكير وتزرع الحسرة في طريق الاعلامي وتحرمه لذة التمتع بالتصريح بالكلمات التي تعبر عن أفكاره، ولكن هذا ما ابتلينا به في أمتنا العربية التي- لا أستثني منها أحد- والتي تضع القيود على أفكارنا وعقولنا وتجعلنا نشعر وكأننا نسير في حقل ألغام نتفادى الكلمات التي ربما تنفجر فتسبب لنا السوء أو تأخذنا إلى- الديار السودا- ويبقى دور المفكر والسياسي والاعلامي ضرورةً تدفعه لتوعية مجتمعه بالتلميح أو بالتصريح ليدرأ الخطر عنهم عندما يعرض ما يحس به لينجبهم من خطر قادم.
إن ما يحدث اليوم على الساحة الإقليمية ككل، يثير انتباه الجميع؛ فالاقليم ملتهب وتكاد تنتهي كل مشاكل العالم ولا تنتهي مشاكله، ويعاد ترتيب كل قضايا الدنيا وتتعقد قضيته، ويجتمع العالم كله لحل المعضلات العالمية ووضع حدٍ لها إلا إقليمنا يجتمع العالم ليصب الزيت على نيران معضلاته لتأجيج الفتنة الكامنة بين فرقائه.
وأنا متأكد أنكم جميعاً تعرفون أن الغاية من ذلك هو إدامة حالة الضعف وعدم الاستقرار في المنطقة الممنوعة من النهوض والتقدم رغم امتلاكها لكل العناصر ما عدا غياب الإرادة السياسية المسلوبة لنبقى هكذا كغثاء السيل بلا فائدة، وعندما ننظر إلى العراق وسوريا ومصر التي تعتبر روافع الأمة العربية القومية والمالية والبشرية نرى الدليل الواضح على ذلك
فهذه سوريا تم تخريبها وإدخالها في بوتقة عنف طائفي بغيض لن تنجو منه ولو بعد حين، وحتى لو وضعت الحرب أوزارها فلن تتمكن من بناء قدراتها إلا بعد سنوات عديدة ومليارات لا طائل للحصول عليها؛ والمستفيد الأول والأخير إسرائيل.
وهذه لبنان التي ما تخرج من أزمة إلا ويتم إدخالها في أخرى ما زالت متعثرة في انتخاب رئيسٍ للجمهورية؛ وقد عاش قبلها مشكلة التمديد لمجلس النواب، واليوم ما زالت لبنان لا تعلم إلى أين تذهب أمام عدم التوافق وأمام التهديد الاسرائيلي الدائم باجتياح الجنوب
وهذه فلسطين التي تنقسم قيادتها إلى دولتين-دولة في الضفة الغربية ودولة غزة- وأنا استخدم مصطلح دولة هنا لأن كل طرف يعتقد أنه لوحده يمثل الشعب الفلسطيني، ويتلقى الدعم من الجهات الخارجية، ويناور سياسياً، ويتاجر بالقضية الفلسطينية، ويتم التعامل معه على أساس أنه الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني لتعظيم عنجهيته والقضاء على القضية الفلسطينية والمستفيد الأول والأخير إسرائيل
أما الأردن، فقد قامت محاولات عديدة لزجه في أتون ما يسمى بثورات الربيع العربي، إلا أنه تجاوزها ثم تم إدخاله بمعركة الاصلاح السياسي التي طالب بها الأردنيون بلا دماء وبمظاهرات سلمية وبضغط حقيقي تجنباً لإراقة الدم الأردني على الأرض الطاهرة – وهذا يسجل للشعب الأردني العظيم الذي تجنب الولوج في نفق الدم الذي دخله بعضٌ من إخوته العرب، وندعو الله أن تبقى الأيادي الأردنية غير ملطخة بالدم الأردني الطاهر،
وخرج الأردن أقوى بعدما عرف الاردنيين أن حركة الاصلاح تتحكم بها أياد خارجية لا تريد لنا الخير، وتدعمها أياد داخلية فاسدة وحاقدة لا تريد لهذا البلد أن يسير في الاتجاه الصحيح
إنني أجزم أن كل هذه الفوضى المفتعلة في منطقتنا قد تآكلت أمامها اللُّحمة الاجتماعية، وتم تشتيت وحدة مصير شعوبها، وترهلت بموجبها البنية المجتمعية، وتم تقويض حالة السلم المجتمعي، وتم الدفع بها لقبول التغيير الذي لا محالة أنه سيكون تغييراً للأسوأ، ولمرحلةٍ بكل تأكيد لا تخدم مصلحتنا بل تُمهِّدُ لمرحلةٍ نكون فيها جميعاً وقوداً لواقعٍ يتم فيه تغيير وجه المنطقة برمتها
وهنا أعود وأؤكد أن كل هذا الالهاء المفتعل لشعوب المنطقة ما هو إلا لإبعاد الناس عن التركيز في حقيقة ما يحدث وما يتم الترتيب له؛ وأعتقد جازماً أنه سيتم ختم هذا المشهد السريالي بسقوط مدوي لدول المنطقة بأحدى مخططات حربٍ طاحنة- تأكل الأخضر واليابس- وتستخدم فيها أعتى الأسلحة الكيماوية والجرثومية، أو بزلزال مفتعل يدمر كل شيء، أو بانقلاب مفاجيء للشعوب التي لم يبق لها ما تخاف عليه. ثم يتم دعوة الدولة الجارة لتتدخل وتقدم المساعدات الانسانية على أساس أنها الراعية لحقوق الانسان في منطقة بلا حقوق
فمتى نقول كلمتنا
والى متى سيستمر صمتنا وقبولنا بهذا الواقع المؤلم من الضعف
واين القيادات السياسية والفكرية والدينية والوطنية في المنطقة؟
هل رضينا بهذا الواقع الذي يقودنا الى حتفنا ...
أم أننا استمرأنا الضعف والهوان ...
أم فقدنا الثقة بأنفسنا ...
وفقدنا الايمان بالله لنصل الى ما وصلنا اليه ...
لقد غدا لزاما علينا أن نسجل موقف امام انفسنا ومجتمعاتنا وأجيالنا القادمة وأمام الله قبل أي شيء وقبل فوات الأوان وأن نستيقظ لنقود الأمة إلى بر الأمان
وكعادتي أختم بأن الله سبحانه ليس بغافلٍ عما يحدث ولن يسمح لهذا الطغيان البشري والعنجهية بالاستمرار فقد تدخل دائما عندما كان ضعاف البشر وأبريائهم يعجزون عن ردع الظلم أو مواجهته،
فقد جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم،
ونجا موسى بشق البحر له طريقاً يبساً،
ورفع عيسى إلى السماء ليحميه من كيد اليهود،
ولا أشك لبرهةٍ بأن وعد الله الحق قد اقترب بالقضاء على الظلم وأصحابه
وأن موعدهم الصُبح ( أليس الصبح بقريب؟ )