أبْحَرْتُ في سياحةٍ طويلةٍ بين الصحفِ الأمريكيَّةِ في الأربعينيات والخمسينيّات من خلال كتاب: «ما خَفِيَ.. مصر بين فاروق وناصر في الصحافة الأمريكية»، الصادرِ عن دار العَين، ترجمة مصطفى عبَّاس المُترجم بالأمم المُتحدة، وإعداد وتقديم د. أسامة حمدي.
الكتابُ عبارةٌ عن مقالاتٍ نشرتْها مجلةُ «التايم» ومجلة «لايف» وأحاديثَ أجرتْها المَجلَّتَان مع محمَّد نجيب، وجمال عبد الناصر.
عنونت «التايم» مقالَها المنشور في ٩ أغسطس عام ١٩٣٧عن تنصيب الملك فاروق ب «صبي الكشَّافة يُصبح، مُشيرًا»، وراحت تصفُ الصبيَّ فاروق وحياتَه في وجود والده وحياته بعد رحيله، كما تعرَّضت لحال الشعوب- الذي ما زالَ كما هو لم يتغيّرْ- «دأبت العامة في الشرق على التهليلِ لسادتِهم وأولياء النّعم، وجُنَّ جنونُ القاهرة والإسكندرية بالملك فاروق في الأسبوع الماضي. وتكالب نحو ٥٠٠٠ من الشباب على شراء أقواس النصر والمراكب الورقية التي غطت شوارع القاهرة». الرتبُ العسكريةُ التي حصل عليها فاروق لم تكن إلا أنَّه رئيس صِبية الكشافة في مصرَ، لكن مع توليه الحكم تمَّ ترقيتُه إلى رُتبة مُشير، « وأمسك بصولجان المُشير عوضًا عن العصا، واستقلَّ العربة الخاصة به وسط المصريين الحفاة الذين يجرون على جانبَي الطريق».
أمرت حكومةُ صاحب الجلالة أن يتألف موكب تنصيب الملك فاروق من سيَّارات ليموزين شديدة الاحمرار، لكنَّها غيَّرت الأمر بتخصيص سيارة شديدة الحُمرة لرئيس الوزراء، وعربة ذهبية برَّاقة للملك فاروق. وَرِثَ فاروق عن والده الملك فؤاد ثروةً قدرت ب ٥٠ مليون جنيه إسترلينيّ، على الرغم من أن فؤاد تولَّى العرش وهو فقيرٌ، لكنَّه ترك ابنه فاروق كأغنى أغنياء مصر، حيث استولى الملكُ فؤاد على الإقطاعيَّات التي كان يملكها الأمير أحمد سيف الدين الذي أطلق الرصاص على فؤاد واستقرَّت رصاصة في رقبته سبَّبت له كحة دائمة وحالات اختناق، حيث لم يتم استخراج الرصاصة حتى رحيله، ال «time» وصفتْ سيف الدين بالأمير المخبول، لكنَّ هذا غير حقيقي، هم الذين خبلوه، ولهذا قصّة نقصُّها عليكم ذات مرَّة. مجلة «لايف- life» كتبتْ مقالًا في ١٤ فبراير ١٩٣٨ تعرَّضت فيه لحفل الزفاف الأسطوريّ للملك فاروق من الملكة فريدة ذو الفقار، كان عمرُها ١٦ عامًا، وفاروق ١٨ عامًا، وكانت فريدة من عامّة الشعب لتُضيف إليه رصيدًا سياسيًا لدى شعبه، «حرص على إتاحة الفرصة كاملة للشعب للمُشاركة في الأعراس. فبعد يومَين خرج بها في شرفة القصر، في أوَّل ظهور لهما عقب الزواج على عامَّة الشعب. ونظرًا للطبيعة الإسلاميَّة العميقة المُتأصلة في شعبه، فإنَّه لم يبالغ في الظهور. وهو في واقع الأمر يرمي إلى اكتسابِ دعمِ الطبقة المُثقَّفة وطلبة الجامعات الذين تتعمق لديهم النزعة الدينية.. وهذه الصفحة دليلٌ على إعجاب عامة المصريين بزواج الملك، وقد كسب رضاهم بهداياه وبذخه من الغذاء والكساء والموسيقى والرقص الذي دام ٣ أيام في الشَّوارع.
لكنَّ الصحافة الغربية بدأت بعد ذلك انتقادَ فاروق وبذخه وتبذيره ولعب القمار في نادي السيارات، وفي سويسرا وإيطاليا والمُقامرة ب ٢٥ ألفَ دولار مرة واحدة، وعلى روليت واحد في بعض الليالي.
لم يكن فاروق يحتسي الخمر، وفي١٠ أبريل عام ١٩٥٠ نشرت مجلة لايف عنوانه: «ملك مصر صاحب المشاكل»، وصفته بأنه يرتاد الكباريهات، وأن الشاب فارع القوام الوسيم الخجول أصبح بعد ثلاثة عشر عامًا من توليه الحكم غليظَ الملامح، وأصبحت ملامحه ملامح رئيس مصرف مُمتلئ، تزوج وطلق وزاد وزنه حوالي ٩٠ رطلًا، واستحوذ على كل السلطات في البلد، وأصبح عنيدًا، مُتقلبَ المِزاج، على الرغم من هذا تُشير مجلة «لايف» إلى أنه حرص على توسيع المُنشآت التعليمية في بلد تتجاوز الأمية فيه ٧٠٪، وفي عهد فاروق أصبح التعليم إلزاميًا للأطفال بين السابعة والثانية عشرة، وبُنيت حوالي ٣٠٠٠ مدرسة ابتدائية، وتضاعف عدد تلاميذ الثانوية العامة أربعة أضعاف، كما أُنشئت جامعة في الإسكندرية تحمل اسمه. تزوَّج ناريمان صادق، فتاة من عامة الشعب، بعد أن حاول إعادة زوجته فريدة فاشترطت عليه طرد بعض الجواري اللائي في قصره، رفض فاروق بعنادٍ، وحتى ناريمان التي كانت مخطوبة لرجل آخر وتزوجها رغم تجاهله كل النقد الذي وجّهه له الأجانب.
في نفس العدد كتب وليام ه. أتود: إن فاروق ملك مُتحيِّر، مُتقلب المِزاج، يتأرجح بين الملذات والرغبة الصادقة في أن يأخذ بيد شعبه «يشعر فاروق بحساسية شديدة من أي نقد عن ولعه بالنساء.
الأمريكان والبريطانيون يندهشون من أن مصر ليست مملكة دستورية على الطراز الإسكندنافي كما تخيلوها، ففاروق لم يكن يُمارس سلطته التنفيذية من خلال الوزراء، ولكن بالتربيط معهم، حيث يُسيّر الملك الأمور حسب رغباته، والشعبُ ١٩ مليونًا مُعدمون، و٣ ملايين يتمتعون بخيرات البلاد!.
أنشأ الجامعة العربية وراحت في هُوّة النسيان، وتعرَّض لهزيمةٍ قاسيةٍ من إسرائيل في حرب ١٩٤٨ وما زال يتخبط في سياساتِه.
"صحيفة الراية القطرية"