بَثَّ تلفزيون "المملكة" من عمّان عاصمة الأردن مساء يوم السبت الماضي، وضمن إحدى نشراته الاخبارية تقريراً عن تعطل سير التجارة بين الأردن وسورية، وقد أشار التقرير إلى أن السلطات المعنية في سورية قد قسمت البضائع القادمة من الأردن أو من أي بلد آخر إلى ثلاثة أنواع.
النوع الأول يقع في قائمة سلبية تمنع استيراد سلع معينة حتى لا تضارب على السلع السورية. والنوع الثاني سلع مُقيّدة يُسمح بدخولها، ولكنها تكون خاضعة للجمارك بمعدلات تتساوى فيها السلع الأردنية مع نفس السلع القادمة من دول أخرى بغض النظر عن الجوار أو اتفاقية السوق العربية المشتركة، والنوع الثالث مسموح له دخول سورية بدون رسوم أو ضرائب شريطة أن يتقدم المُصدِّر الأردني بطلب إذن يتضمن السلع وأنواعها ومواقيت تصديرها وكمياتها. وعادة ما تمنح تلك الأذون بقدر كبير من الحرص وعلى فترات متباعدة.
وقد تبنت سورية هذا الإجراء فوراً بعد فتح الحدود في منطقة نصيب السورية عام 2018، ومع اندلاع جائحة كورونا، توقفت التجارة إلا بمقادير قليلة في الوقت الذي زادت فيه محاولات التهريب على الجانبين.
وفي حديث لي مع وزير الصناعة والتجارة والتموين الأردني، يوسف الشمالي، أبدى الوزير تفهماً لظروف سورية. فهي تعاني من نقص حاد في العملة الأجنبية، في ظل قانون قيصر أو (Caesar Act ) الذي يضع قيوداً على الاستثمار والتعاون مع سورية ومع أي دول تتعاون معها خاصة إيران وروسيا. ولكنها تمتد لتؤثر على التعاون الاقتصادي بين الأردن وسورية.
وما زاد الطين بلّة هو أن السلطات العسكرية والأمنية الأردنية صارت تأخذ إجراءات متشددة لإيقاف تدفق المخدرات الكيماوية، والتي تهرب عبر الحدود السورية مع الأردن ومع العراق إلى الأردن بهدف توطينها في الأردن استهلاكاً، وبهدف استخدام الأراضي الأردنية معبراً إلى دول الخليج. وقد تسرَّبت معلومات استخبارية غربية تلمح إلى أن بعض المتنفذين في سورية، وبعض عناصر المقاومة اللبنانية، لهم ضلع في الموضوع لكي يؤمنوا مزيداً من النقد الأجنبي.
ولا يشير أي مسؤول أردني بأصابع الشك إلى سورية أو أصدقائها في لبنان، ولكنهم يتذمرون من أن الجانب السوري يجب أن يساهم أكثر في التصدي لهذه الحالة من فوضى التهريب عبر الحدود، لأن في ذلك ضرراً كبيراً على أبناء الأردن واقتصاده.
وبالمقابل يشتكي الأردن من أن العمالة في سورية رخيصة جداً إذا ما قيست بالأردنية، وأن هذا الوضع يعطي المصانع والمرافق الاقتصادية السورية ميزة سعرية عالية على حساب المنتجات المثيلة في الأردن. والعامل السوري الذي يجني 100 ألف ليرة سورية هو في الواقع يحصّل راتباً قدره ثمانية دولارات ونصف.
ولو كان يجني حتى نصف مليون ليرة سورية شهرياً فهذا لن يبلغ أكثر من 42 دولاراً في الشهر، علماً أن الحد الأدنى للأجور للعمال غير المَهَرة وبدون كفاءة يبلغ 260 ديناراً شهرياً أو على الأقل سبعة أضعاف الراتب الشهري للعامل السوري.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتعداه إلى أن الأردن وسورية لم يسويا بعد خلافاتهما حول حصص نهر اليرموك (أحد فروع نهر الأردن المهمة)، وسد الوحدة الذي أقيم على الحدود لا يكاد يزيد مخزون المياه فيه عن ثُمن (12.5%) المياه المفروض أن تُخزن فيه. والأردن يعاني أكثر بكثير من سورية من شح المياه، ومركز الأردن بالنسبة لحصص الفرد من المياه يجعله يقبع في أدنى القائمة من بين دول العالم، وإن تحسن فإنه يكون ثالث أفقر دولة.
وبالمقابل، فإن الأردن يعاني من نفس الإجراءات التي تتبناها مصر. وفي عام 2016، لما كنت وزيراً للصناعة والتجارة والتموين في الأردن، سافرت مع وفد رفيع برئاسة رئيس الوزراء آنذاك. وأخبرت زميلي على الجانب المصري أن العلاقات الاقتصادية بين مصر والأردن بأشكالها التجارية والاستثمارية والخدمية توفر لمصر حوالي 1.2 إلى 1.4 مليون فرصة عمل. فهنالك أكثر من 850 ألف عامل مصري يعملون في الأردن، وهناك استثمارات أردنية تصل إلى ملياري دولار، وفائض تجاري يصل إلى 300 مليون دولار على الأقل سنوياً، وحوالات من العمال إلى مصر تصل إلى مليار دولار سنوياً على أدنى حد. وهذه توفر كلها فرص عمل للمصريين في الوقت الذي يعاني الأردن فيه من نسبة بطالة مرتفعة.
وقد أبلغت الوزير أنني سأقوم باتباع إجراءات بالمثل في التعامل مع البضائع المصرية. فقام معاليه آنذاك بمنح 17 مستورداً أردنياً أذونات بالتصدير إلى مصر.
وقصة الأردن مع العراق قصة طويلة. ورغم كل الاجتماعات على كل المستويات، والوعود بحلحلة التجارة وغيرها من الأمور، والسير في المشروعات البنيوية إلا أن الحركة الاقتصادية بين البلدين تبقى قياساً لإمكاناتهما محدودة جداً. والأمل ما يزال معقوداً على أن يبدأ تنفيذ سكك الحديد وأنبوب النفط، والمنطقة الصناعية الحدودية والربط الكهربائي.
طبعاً ظروف هذه الدول الثلاث النقدية والمالية ليست حالياً على ما يرام، وظروف لبنان التي تشكل سوقاً أردنية للخضار خاصةً في فصل الشتاء، لم تعد ممكنة. والأردن الذي يحافظ على الاستقرار في النقد وسعر الصرف يتكبد كلفاً عالية ليفعل ذلك، بما فيها أسعار الفوائد، وأسعار الطاقة، وكلف النقل المرتفعة.
وما دام الحال على ذلك، فإن الأردن يواجه عدداً من القضايا المعقدة. الأول أن أهل المدن القريبة من الحدود السورية في الأردن (الرمثا وأربد والمفرق) يريدون التعامل مع سورية، ولا يريدون للأردن أن يستمر في معاملة سورية بالمثل. وهم يضغطون بذلك الاتجاه. وكذلك الحال مع القاطنين على الحدود العراقية، والصناعيون الذين لهم استثمارات في الأردن موجهة للسوق المصرية أو استثمارات في مصر، ولا يريدون للحكومة أن تعطل أعمالهم ويشكلون قوة ضاغطة لا يستهان بها.
والثاني هو تأثير الدول الأقوى على فتح باب التعامل بين العراق وسورية من ناحية والأردن من ناحية أخرى. فالنفوذ الإيراني وكذلك الضغط التركي لهما تأثير على سياسات الأمر الواقع عبر مؤيديهم ومناصريهم. وإيران هي الدولة التي تمارس سياسات عبر أنصارها في العراق وسورية لعدم منح الأردن أي امتيازات. وبالطبع، فإن قانون سيزر الأميركي يحد من قدرة الأردن على الوصول للأسواق السورية وعبرها إلى دول شرق أوروبا.
والثالث أن تجارة الترانزيت من سورية عبر الأردن من شرق أوروبا إلى دول الخليج، وبالعكس كانت تمنح الأردن إيرادات مهمة حُرم كثيراً منها، وكذلك حُرم من وصول صادراته من الخضار والفواكه الشتوية إلى تلك الأسواق. وتقف الشاحنات أحياناً أياماً على الحدود لإشكالية بسيطة أو لكلمة واحدة.
فماذا سيفعل الأردن حيال هذه الموضوعات. الأردن يستضيف الآن ما يزيد على 4 ملايين عربي معظمهم أتوا من دول عانت الأمرين من الحروب والفتن مثل سورية والعراق واليمن وليبيا. وكذلك، فإن الأردن ما يزال يستقبل العمال المصريين الذين يصلون إلى قرابة مليون عامل علماً أن ربعهم فقط حاصل على إذن عمل.
هل يبدأ الأردن باتخاذ إجراءات صعبة من أجل ضبط الاستيراد والتعامل مع دول الجوار؟ أم أن يستمر الأردن باتخاذ بعض الإجراءات التي لا تستطيع دول الجوار الاحتجاج عليها. والاستمرار في التفاوض وبذل كل الجهود الممكنة لحلحلة القيود وإقناع العرب أن التعاون بينهم كجيران هو البديل الأفضل من هذه الإجراءات التقييدية. ولن تجد صديقاً للدول العربية أفضل من جار عربي آخر يحرص كل منهما على عدم تقطيع تلك العُرى.
إن حِسْبة بسيطة تظهر أن خسائر الأردن المباشرة في تعاملاته العربية قد تصل إلى 10 مليارات دولار سنوياً، في الوقت الذي يحتاج فيه الأردن إلى هذه الفرص لإنعاش اقتصاده والسير قدماً. وأردن مرتاحٌ هو كنز لجيرانه كما أثبتت الأيام السابقة، وهذه هي السياسة التي تتبعها الحكومة الأردنية الآن. ولكن ماذا لو لم تتغير معاملة الجيران. هل نذهب إلى القول المصري الدارج " خلي بالك من جيرانك".
"العربي الجديد"