"القانون" بينَ الأهمية المَسلكية والمفهوم والنوعية
د. ضرار مفضي بركات
01-08-2023 11:10 AM
أقول: لأننا التزمنا منذ البداية أن نكونَ على قدر المسؤولية، ولأننا بالعزم والإصرار والثبات على المنهج، والسير قُدُماً بمنهجيةٍ: (جادة على الجادة "الحق") نُحقق: (المتوقع والمأمول) بكل رصانة؛ ليتحصل لدينا بمرور الوقت، الذي يتخللُ ثناياهُ، خوضاً وتجارب بحثية أخرى، شيءٌ من الخبرة، والتي قد تصل ببعضنا إلى ما يُسمىَ، بالملكة البحثية، التي تتسم بالمنعة الفكرية، المنشودة عموماً، بعون الله وتوفيقه، يأتي هذا المقال عطفاً على مقالٍ سابقٍ لي: "أدبيات أسالب البحث العلمي" تزامناً لمحبتي واهتمامي الدراسي لبرنامج "ماجستير القانون"، جاء هذا المقال بـــــ "حُـلَّـــتَـــهِ الجَديدةَ " تخصصاً وبحثاً وإمعاناً، لا يخلو من الاستقراء والتجريب منهجاً.. ضمن محاور تنتقل من التأصيل والأهمية "للقانون" إلى المفهوم والنوعية والتحديات، على النحو الآتي:
المحور الأول: الحاجة إلى التشريع (القانون):
إنَّ الحاجة الفطرية للعلاقات والمعاملات؛ لقضاء الحوائج، والحاجة القضائية لها تنظيماً وإلزاماً ليستدعي بالضرورة المقاصدية، شرعاً وعرفاً وعقلاً إلى التشريع( القانون) بقواعده القانونية والشرعية التعاملية والإلزامية؛ لأنَّ مصالح الناس كما هو معلوم بأنَّها لا تتمُ إلا بالاجتماع والتعاون، ولا يمكن للإنسان أن يعيشَ بمعزلٍ عن غيرهِ من بني الإنسان، في حاجة بعضنا لبعض قائمة، وقيام كل واحد منا بتأمين مَصالحهِ وحاجاتهِ بمفردهِ غير مُمكن، حتىَ أنَّ الناسَ بمجموعهم لا يمكنهم العيشَ إلا بمجتمعٍ يتسمُ فيهِ بوجود الروابط وقوة العلاقات بجميع أنواعها، والتي تحتاج بالضرورة إلى قواعد وأحكام تنظمها وتضبطها؛ لكي لا تتضارب المصالح، وتحصل الـنِزاعات، ويأكل القوي منا ضعيفنا!.
ومن هنا كانَ كلُ مجتمعٍ بأمس الحاجة للتشريعات والقوانين، الضابطة والملزمة، لِتَحكمَ العلاقات في المجتمع والقانون يُبين الحقوق وحدودها، كما أنهُ هو الذي يضبط السلوك ويقومُه، ويحمل الإنسان على الالتزام بأداء الحقوق، وعدم الاعتداء على تلكمُ الحقوق، وعدم تجاوز حدودها.
والـقـانون (قوة وسلطة مُلزمة) لتحقيق "العدالة" التي موضوعها "الحقوق"، وضبط النظام العام والأخلاق؛ لحماية المجتمع ككل، بل إنَّ قوة تدخل القانون في التصرفات القولية والفعلية، ابتداءً ومضموناً وأثراً- وحتىَ في مظهرها الخارجي: (الإيجابي والسلبي) تأتي من قوة الحق وثبوتهِ، بالالتزام بقواعد " القانون" وأحكامه.
ولما كانت تلكم العلاقات في المجتمع مبنيةً على المعاوضة؛ لأنَّ كلُ فردٍ يأخذُ ويُعطي سِلعةً أو مَنفعةً أو خِدمةً بثمنٍ وجهدٍ .. ولما كان هذا أيضاً يُساق إلى خارج المجتمع، كالدولة بحكم ثقافتها التعاقدية والتعاملية في مختلف المجالات الصناعية والتجارية والخدمية؛ لمختلف حاجاتها "استيراداً وتصديراً" كانَ لازماً، ومُمعناً بالنظر في وضع الأنظمة والقواعد والضوابط بمجموعها " قانوناً " يتسم بالقوة والسلطة، حمايةً لتلكم الغايات المشروعة، ومنها ضمان الحقوق بحدودها بحكم القانون- وتلبية الحوائج، بحكم الفطرة الإنسانية، والمعاوضة، بحكم ثقافة كل مجتمع، ومدى التزامهِ بالقانون.
وهذه السلطة للقانون التي يلتزم بها الناس بــــ"التشريع" هي هوية مجتمعنا، وعنوان التزامهِ، بمبادئ التشريع الإسلامي، بفقهِ وأصولهِ، وقواعده، وأحكامهِ، وما قُنِنَ من جذوره ومنابتهِ، باستعمال الأدوات والمناهج الاستنباطية، بعناية ودقة، لغةً وعُرفاً، بل ومراعاة تقدير البيئة، وأحوال الناس ومُستوياتهم؛ لتحقيق العدالة في كل مجالات حياتهم العملية اليومية والمستقبلية، وكما قالوا:(القانون إذا لم يكن مُلزماً كانَ حِبراً على ورق). وروي عن سيدنا عمر بن الخطّاب-رضي الله عنه- أنهُ قال: (يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن).. قالوا: لأنَّ الناس يخافون من عواجل العقوبة أشدّ مما يخافون من آجلها. (ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، ج1، ص61).
وبعد هذا التقديم لعلهُ تبادرَ لذهننا بفاعلية أنَّ القانونَ، نظام شامل ومُلزم وضابط للتصرفات، كيف لا؟! وهو يعدُ أيضاً مصدراً مُباشراً من مصادر الالتزام، فهو يُرتب التزامات مباشرة على أفراد المجتمع؛ لأسبابٍ مُختلفة، وفي المادة (312) من القانون المدني الأردني، الذي هو جزء من القانون الخاص، فقد نصت على أنَّ: "الحقوق التي تنشأ مُباشرة عن القانون وحدهُ تسري عليها النصوص القانونية التي أنشأتها".
بمعنى أنهُ قد يفرض "القانون" التزاماته مُباشرةً على أفراد المجتمع، دونَ أن يكونَ لإرادتهم دور في نشوئها، مثل: التزام الزوج بدفع النفقة إلى الزوجة، ومنه الالتزام بدفع الرسوم الجمركية على السلع المستوردة من قبلهم، وغيرها. وقد يكون "القانون" مصدراً غير مباشر للالتزامات التي تنشئها المصادر الأخرى: كالعقد؛ حيثُ تُلزم المدين بموجبها بتنفيذ التزامهِ، بمضمون الالتزام وأوصافهِ، وذلك الحال بالنسبةِ إلى الدائن فيما يجب عليه أداؤه، وما لا يجب، خاصةً في حال التنازع والخصومة.. وذلك لأسباب تُحددها النصوص التشريعية للقانون، وفقَ مُعطيات تضبط، وتكفل، تلكم العلاقات والروابط، بأطرٍ شرعية ونظامية، لها مجالسها واختصاصاتها، في الحال والمآل.
المحور الثـانـي: مفهوم "الــقــانـون" بين أهميته، بقسميه العام، والخاص، وبين الغاية والمقصد:
وأما مفهوم "الــقــانـون" فهو عبارة عن مجموعة قواعد عامة مُجردة، مُلزمة، تُنظم العلاقات بين الأشخاص الطبيعيين أو المعنويين في الحال والمستقبل، وتقترن بجزاء ومسؤولية في حال مُخالفتها أو مُناقضتها.
وبالنظر إلى مفهوم "القانون" بنطاقهِ المُوسع والمُضيق، وبالمعادلات، نجد ما يلي:
أولاً: أنَّ "القانون" قواعد ناظمة ومنظمة + قواعد السلوك العامة= لـتُشكل بمجموعها نظاماً عاماً سُلوكياً ثابتاً؛ يُفيد الاستمرارية، والضبط المتقن في أدبياتهِ، وأخلاقياتهِ الحاكمة.
ثـانيـاً: فإنَّ كانَ ما تنظمهُ تلكم القواعد القانونية بين الأشخاص والدولة والمجتمع داخل حدود الدولة، كانَ قانوناً "عاماً داخلياً" يشمل فروعاً، كالقانون الدستوري، والقانون الإداري، والقانون المالي، والقانون الجنائي، ويلحق بهِ أصول المحاكمات الجزائية.
ثـالـثـاً: فإنَّ ما تنظمهُ تلكم القواعد القانونية ما بين دولة ودولة أخرى، أو بينها وبينَ منظماتٍ إقليمية ودولية، يُعدُ قانوناً "عاماً خارجياً" له قواعدهُ في السلم والحرب والحياد.
رابعـاً: فإنَّ كانَ ما يُنظم علاقات الجماعات والإفراد والمجتمع ككل سُلوكياً، وبينَ الأشخاص أنفسهم وبينَ الدولة، بمجموعة من القواعد الضابطة، والأحكام القانونية، التي تُبين للجميع، "حقوقهم وواجباتهم"، وللحد من أي تداخل بين المصالح، وتجنباً للفوضى، واختلال التوازن؛ وتفادياً لسيطرة الذات بما عُرفَ به بعض الناس من أنانية وتمادي على الحق وسلطانهِ، عُدَ قانوناً "خاصاً": كالقانون المدني والتجاري، والدولي الخاص، وقانون العمل، وقانون أصول المحكمات المدنية.
خامساً: ليصلَ بنا القولُ أنَّ "القانون" علمٌ اجتماعي -نوعي وهادف- موضوعهُ: الإنسان وسلوكهِ مع نظائرهِ، يضبطهُ ضبطاً مَسلكيـاً وتربوياً ونفسياً، وسياسياً، واقتصادياً بامتياز.. ومن الطبيعي أن تتنوع القواعد القانونية، التي تُنظم نواحي الحياة المختلفة، باختلاف طبيعة وموضوعات وشكل الروابط كما تقدم، وسواءً أكانت تُلكم الروابط مالية مُتعلقة بالمعاملات، كالبيع والإيجار، أم كانت سياسية، تتعلق بالحقوق السياسية، وكيفية مُمارستها، لحق الانتخاب والترشح، وحق تولي الوظائف العامة.
المحور الثـالث: بعضاً من المشاكل التي تواجه "الــقــانـون" بصورةٍ عامة:
أولاً: ((القول بتشكيك في مدى الفاعلية والكفاءة له، وهذا لـيلزم انعكاساً أو إحجاماً عن تكييف قواعدهِ ومبادئهِ، التي أثبتت فاعليتها، بمضي "زمن فاعل" طُبقت قواعدهُ بجدية، ومهنية وحرفية في مواجهة التحديات والصعوبات المعاصرة.((
ثانياً: ((استغلال القانون بطرقٍ غيرُ أخلاقية، مما يستدعي استحضاراً للأخلاق والقيم؛ لحماية الإنسان من الآثار المترتبة على ذلك، وبالتالي لا يمكن أن نرتقي سُلم الإنسانية الحقة! وقد جعلنا القيم الأخلاقية، تسيرُ وراءَ القانون، وليست هي السابقة له)).
ثــالـثـاً: (( قيام بعض المتنمرين أو شعورهم بأنهم يستطيعون فرضَ مطالبهم، والتي غالباً ما تكون غير عادلة وسالبة لحقوق الآخرين، وتنافي مبدأ التنافس الحر بين الأفراد تحت ظل القانون، وأنهم سيحققون مبتغاهم! ويتطلب هذا أن لا تخضع الدولة، وأي من مؤسساتها للابتزاز تحت أي ذريعة كانت.. بالقابل ينبغي أن لا تتردد الدولة إطلاقاً، بضمان سيادة القانون، وتنفيذه بعزم، وعدل في كل مكان وزمان، ولربما داخل كل مجتمع محلي قد يزيد من شعور المواطنين بعدم الإنصاف، في المعاملة ويرفع نسبة المواطنين ممن يعتقدون بأنهُ لا يوجد نزاهة أو عدالة، مما يؤدي مثل هذا الاعتقاد إلى انسحاب مزيد من المواطنين وبالأخص المستثمرين في الإحساس بالاغتراب! فعلياً -حسياً ومعنوياً- والزيادة فيه، اجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، يُسهم لحدٍ كبير إلى قلتهم (المستثمرين) مع الحاجة الماسة إليهم؛ للنمو والتنمية، بالذي يلزم وقف هذه التجاوزات فوراً..)).
الخلاصة والنتائج:
- إنَّ "غاية القانون" بيان الحقوق وحدودها، وواجبات المواطنين والتزاماتهم، والحدُ من انتشار الجريمة في المجتمعات؛ بفرض العقوبات الرادعة، وآليات التطبيق، بقواعد وأحكام، تنظم وتضبط "التصرفات" القولية والفعلية بما يُحقق الأمن، والحفظ التعاقدي، والتعامل الأخلاقي، سواءً أكانَ مُواطناً أم أجنبياً، داخل الدولة أو خارجها.
- ولما كانت العلاقة بين شخص وآخر في المجتمع أو بينهُ وبين الدولة، أو الدولة مع غيرها من الدول، ولما كانَ هذا التوسع في الروابط والعلاقات، فقد تمَ تقسيم القانون بناءً على طبيعة تُلكم الروابط إلى قانون: "عام وخاص"، كما تقدم.
- وفي قول الملك الحسين -رحمهُ الله-: (( ولعلَ أهم ما ينبغي التذكير بهِ، ونحن نؤكد على ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية، هو أنَّ المجتمعات المستقرة، المنتجة، هي المجتمعات: التي يسودها النظام والانضباط، فالانضباط، هو النسيج المتين، الذي يمتدُ بينَ أبناء الشعب جميعاً، ويشدهم بعضاً إلى بعض، في بنيان واحد مُنسجم منيع، يسد الطريق الأعداء، ويفتح آفاق للأجيال المُقبلة)).
- ولما تقدم فإنَّ القانون وسيادتهُ يعدُ من أهم "العلوم الإنسانية" الأساسية؛ للفرد، وللقوم، وللمجتمع، والدولة والدول؛ ربطاً بمنهجٍ عظيم، لا يمكن تجاهلهُ، وبالمقابل هو لا يحيدُ عن المنطق، في تحقيق الأمن، والطمأنينةَ، والحماية، والضمان، وبالتالي فإننا بــ"الــقــانـون" نرتقي، وإليه ننتمي، وعليه نبني، وبهِ تُحفظ حقوقنا، وعليه نُطبق واجباتنا.
والله الموفق لكل خير لا ربّ غيره.
المراجع، والملاحظات:
1. (السرحان، عدنان إبراهيم، وخاطر، د. نوري حمد، شرح القانون المدني مصادر الحقوق الشخصية- الالتزامات- دراسة مقارنة، دار الثقافة، عمان، ط9، 2023م).
2. (أبو البصل، د. عبد الناصر، دراسة في فقه القانون المدني الأردني(النظرية العامة للعقد)، ط2، دار النفائس، عمان، 2010م).
3. (ابن الطقطقي، محمد بن علي بن طباطبا(ت: 709هـ)، الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية، تحقيق: عبد القادر محمد مايو، دار القلم العربي، بيروت، ط1، 1997م، ج1، ص61).
4. مقال: حُماة الحق للمحاماة، "مفهوم القانون" على موقع: (.(https://jordan-lawyer.com/2020/05/03
5. مقال: بريزات، د. فارس، "شدشدة" سيادة القانون، على وكالة "عمون" الأخبارية الأردنية، تاريخ 7/9/2022م على: (https://www.ammonnews.net).
6. مقال: عن حياة الملك الحسين –رحمه الله- على موسوعة ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، 2023م على: (https://ar.wikipedia.org/wiki).