بماذا ينشغل الأردنيون اليوم أكثر : بالحريات، أم بلقمة العيش؟..
لا ينطلق السؤال من بوابة المفاضلة بين خيارين، وإنما لفهم أولويات الواقع في سياق الاضطرارات، الإجابة، للأسف، معروفة سلفا، الأوضاع الاقتصادية -حسب استطلاعات الرأي - تحتل المرتبة الأولى على سلم اهتمامات الأردنيين، معظم التحولات التي شهدها بلدنا، وخرج الناس من أجلها للشارع، كان عنوانها «الاقتصاد «، هذا بالطبع مفهوم، فلا شيء يتقدم على «الرغيف «، بما يحمله من دلالات العيش الكريم، و الحاجات الضرورية، وضغط متطلبات الحياة، الشخصية الأردنية تبحث عن الستر والكرامة، وتتحمل كل ما يواجهها من ضغوطات، لأجل ذلك.
هذا لا يعني أبدا أن الحريات العامة خارج سياق اهتمامات الأردنيين، على العكس تماما، ليس فقط لأنهم يهربون من أزماتهم إلى المجال العام المفتوح، ليتنفسوا ويُعبّروا عن أنفسهم، ويتبادلوا الشكوى والانتقاد و»الطخ «على بعضهم، وعلى من حولهم من المسؤولين، وإنما، أيضا، لأن السياسة تجري بدمهم، الأردنيون سياسيون بالفطرة، وكل قضايا العالم السياسية تشغلهم، ولا يجتمعون، او يتصلون ببعضهم، إلا وللسياسة نصيب من احاديثهم.
عبر تاريخ الدولة الأردنية كان ثمة معادلة يتم بموجبها « تكيّف» السياسة، بما توفره من حريات وانفتاح، وانفراجات و تحولات، مع انغلاق أبواب الحلول الاقتصادية، ربما على قاعدة «فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحال «، جربنا ذلك قبل نحو 35 عاما( 1989)، وكانت النتيجة مدهشة، تكررت التجربة، أيضا، خلال السنوات العشر الماضية، آخرها إطلاق مشروع التحديث بمساراته الثلاثة، حيث احتلت السياسة الجزء الأهم من التركيز، باعتبارها الأكثر ديناميكية، والأقدر على تغيير القناعات والانطباعات، بعكس المجال الاقتصادي الذي نحتاج لوقت طويل، لإثبات إنجازاتنا فيه.
بموازاة ذلك، كان ثمة معادلة أخرى تتكيف فيها السياسة، بما تفرضه من تشريعات ومناخات، مع المستجدات واستحقاقات المرحلة القادمة، أقصد -هنا - ان ما يفعله السياسي يتجاوز ما نراه في واقعنا الى قادم لابد من الاستعداد له، هذه المعادلة في الغالب تبقى مسكوتا عنها، لكنها تعكس، أحيانا، منطق الدولة، أي دولة، في التعامل مع ما تعتقد أنه يمكن أن يهددها، او يحافظ على مصالحها، في سياق تهيئة البيئة العامة، أو مواجهة ارتدادات الأحداث المتوقعة، لكن المجتمعات، بالعاده، تبقى أسيرة لهواجسها ومخاوفها تجاه ذلك، سواء بسبب غياب الثقة بمؤسساتها، أو عدم توفر المعلومات، أو بسبب الغموض العام الذي يشكل سمة عامة لحركة السياسة.
لا يوجد لدينا عيون «زرقاء اليمامة « لنرى القادم، لكن ثمة مؤشرات عديدة لأيام صعبة قادمة، مزدحمة بالمفاجآت، هذا يجب أن ننتبه إليه في إطار ما يجري مما قد لا نفهمه الآن، ليس لتبريره أو القبول به، وإنما للاستعداد له، واستباقه بما يلزم من مقاربات. هذه مسؤولية النخب التي تتصدر المشهد السياسي، لا سيما وأننا في بلد يقع ضمن منطقة «حفرة الانهدام»، بما تحفل به من متغيرات وأجندات، وبما تفرضه علينا الجغرافيا السياسية، إقليميا ودوليا، من استحقاقات.
في ضوء ذلك يبدو السؤال عن ترتيب أولوياتنا الوطنية سؤالا مشروعا وضروريا، فإذا افترضنا، مثلا، ان لدينا مشروعات لتحديث الدولة تحظى باهتمام إدارات الدولة ونخب المجتمع، فإنه يجب تصحيح المناخات العامة وتهيئتها لإنجاح هذه المشروعات، وإزالة ما يواجهها من عوائق، وإذا افترضنا أيضا أن التهديدات الخارجية، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، تشكل الأولوية لحركة السياسة، وبالتالي حركة المجتمع، فإنه يجب أن نطرح كل ما يتعلق من سيناريوهات، ثم نكاشف الأردنيين بها، لكي نضمن استعدادهم للتعامل معها...، وهكذا على صعيد الاقتصاد، او المتغيرات الدولية والإقليمية الأخرى.
"الدستور"