في محاولات بائسة لإحتواء غضب الشارع، وإطالة عمرها إلى أبعد مدى ممكن، وبعد أن اتسع الخرق على الراقع، باتت الحكومة تحث الخطى سريعا نحو إتخاذ مزيد من الإجراءات العقيمة بهدف تنفيس الإحتقان السائد في الشارع الإردني.
الوصفات التي تقدمها الحكومة لم تعد تجدي نفعا، وتأتي في ظل مخاوف الحكومة من أن يطالها انتقال عدوى السقوط المدوي الذي لحق بالنظام التونسي، وأصبحت تخشاه أنظمة أخرى، فيما بات يشبه الإنفلونزا المتربص بالحكومات، فهذا ليس مرضا يصيب الخنازير أو البقر يمكن مقاومته بالمضادات الحيوية، بقدر ما هو وباء تسببه سياسات البشر وبات بحاجة إلى عملية جراحية يتم من خلالها استئصال العديد من الأورام التي تكاثرت وتضخمت مُشكلة بؤر فاسدة أضرت بصحة المواطن وقوته حتى أطبقت على رئتيه مما أفقده القدرة على التنفس.
ومن هنا نجد الحكومة تحاول جاهدة الحيلولة دون الوصول بها إلى مبضع الشعب الذي يشكل هاجسا مطبقا على صدر أي حكومة، فنجدها تهرول نحو اجراءات لتخفيض نار الأسعار المشتعلة بعد أن فرضت العديد من الضرائب وقوننت العديد من السياسات التي أدت إلى الإرتفاع الجنوني فيها، الأمر الذي لم يعد معه العيش ممكنا لشريحة كبيرة من فئات الشعب المسحوق.
ومن ضمن صولاتها الميؤس منها لتنفيس الإحتقان، نجدها تسخر إعلامها المرعوب لتسليط الضوء على حزمة الإجراءات وردود الأفعال عليها وبيان أثرها على معيشة المواطن الأردني، فتنطحت تلك الأبواق لإجراء العديد من اللقاءات مع بعض المسئولين السابقين من أعيان ونواب ووزراء ووجهاء، والذين بدورهم أشادوا بتلك الإجراءات وانعكاساتها الإيجابية على حياة المواطنين.
الغريب أن معظم المسئولين الذين أُجريت معهم تلك اللقاءات لا يعرفون الطرق المؤدية إلى المحال التجارية، ولا يعرفون ما هي الأسعار السائدة في الأسواق، حيث معظمهم لديهم الخدم والحشم الذين يقومون بشراء حاجياتهم وما عليهم سوى الدفع من أرصدتهم المتخمة- هذا إن دفعوا- والتي حققوها بفعل نفوذهم ومواقعهم السابقة.
المدهش أيضا أنه بنفس الليلة التي أُتخذ فيها قرار تخفيض الأسعار، والذي يبدأ سريانه في اليوم التالي، سارع التلفزيون الأردني إلى إجراء مقابلات مع مرتادي المؤسسات الإستهلاكية، وقد ظهر أحد المواطنين المرعوبين من بطش الحكومة، مشيدا بحكمة وشجاعة تلك القررات التي بدأ يشعر ويلتمس الفرق معها!! مع العلم أن التسعيرة لم تتغير ذلك الوقت!!
ويبقى السؤال الكبير، مالذي تريده الحكومة أو تنتظره حتى ترحل؟
إذا كان حرق رجل واحد لنفسه أدى إلى طيران نظام بأكمله ووضع دولة شقيقة في مهب الريح، فهل تنتظر حكومتنا الرشيدة أن يحرق الشعب نفسه حتى تُريح وتستريح؟
المطلوب اليوم أكثر بكثير من تخفيض الأسعار، أو إيجاد فرص عمل هزيلة، ويمكن تلخيص ذلك بثلاث نقاط رئيسية :
الأولى: الإصلاح السياسي، وهذا يتطلب رحيل الحكومة بالدرجة الأولى، والإتيان بحكومة وطنية من خارج منصة التوريث المعهودة التي جلبت الويلات على الوطن، يرأسها رجلا معروفا بنزاهته وإستقامته، يقدم برنامجا شاملا للإصلاح السياسي والإقتصادي قابل للتنفيذ خلال فترة محددة، وهذا يستوجب حل المجلس النيابي المعين وإجراء انتخابات جدية تكون الكلمة فيها للمواطن بعيدا عن الشكلية ونزاهة وشفافية الحكومة.
أما الثانية: فهي ضرورة مكافحة آفة الفساد وتقديم رموزه للقضاء بعيدا عن تصفية الحسابات، التي كبدت البلد وأوصلته إلى تلك الحافة والتي لن يكون العودة معها ممكنا، وإعادة كافة الأموال المنهوبة، وعدم الإكتفاء بمحاربة الفساد بالتصريحات من على منابر الصحف والفضائيات.
أما ثالثة الأثافي: فهي تفعيل مبدأ سيادة القانون وتكافؤ الفرص الذي طالما تغنت به الحكومات سابقها ولاحقها، ليأخذ كل مواطن حقه ويؤدي ما عليه من واجبات، وبغير ذلك نكون كمن يحرث في الماء.
عندها، وفقط عندها، سوف يكون المواطن الأردني مستعدا لتحمل المزيد من التبعات وتقديم المزيد من التضحيات، مهما كانت قاسية في سبيل المحافظة على وطنه وأمنه وقيادته، طالما كلنا في الهم سواء، أما أن يبقى (ناس توكل الجاج وناس تقع بالسياج) فهذا غير مقبول، وعندها سيصبح كل شيء قابل للتغيير باستثناء الوطن والقيادة والشعب وما دون ذلك فهو مباح.
kalilabosaleem@yahoo.com