أردن "الإرادة" و"الطموح"!
كمال ميرزا
27-07-2023 08:12 AM
بالأمس تسنّى لي دون نية مسبقة حضور محاضرة في "جمعية الشؤون الدولية"، وهي المرة الأولى التي أزور فيها الجمعية بعد انتقالها إلى مقرّها الدائم الجديد.
المحاضرة التي جرت برعاية دولة رئيس الوزراء الأردني السابق "عون خصاونة" خُصصت لإشهار كتاب الباحث والمؤرّخ الأردني الدكتور "محمد عيسى العدوان" بعنوان "إرادة شعب وطموح ملك.. الرد الصحيح على تلفيق ماري ويلسون الصريح"، والذي سيكون متاحا بين يدي القرّاء شهر أيلول القادم بحسب مؤلفه الدكتور "العدوان".
كتاب "العدوان" كما هو واضح من عنوانه، مكرّس للردّ على كتاب الباحثة (ماري ويلسون) الصادر عن جامعة (كمبردج) حول الملك عبد الله الأول وتأسيس الدولة الأردنية، والذي يحمل بالإنجليزية عنوان (King Abdullah, Britain and making of Jordan)، وهو العنوان الذي تجد له في العربية ترجمات عديدة، منها ما هو حرفيّ "الملك عبد الله، وبريطانيا، وصناعة الأردن"، ومنها ما يعكس توجّهات أصحابها مثل "عبد الله وشرق الأردن بين بريطانيا والحركة الصهيونية" أو "اختلاق الأردن".
أنا لم أقرأ كتاب (ماري ويلسون)، وطبعا لم أقرأ كتاب الدكتور "العدوان"، لذا لا أستطيع الحكم أو التعليق إلى أي مدى كان "العدوان" موفقا في ردّه على (ويلسون)، وإلى أي مدى كان "العدوان" موضوعيا بخلاف (ويلسون) التي وصفها بعدم الموضوعية، وإلى أي مدى متن كتاب "العدوان" هو ترجمة محكمة للمنهجية العلمية الصارمة التي تحدّث عنها في المحاضرة.
ما استوقفني في كتاب "العدوان" عنوانه، وتحديدا شطره الأول: "إرادة شعب وطموح ملك".
هل الأردن كدولة قُطرية تحدّها الحدود السياسية التي رسمها وزير المستعمرات البريطاني في حينه (وينستون تشيرتشل) من وحي اتفاقية (سايكس بيكو) و(وعد بلفور)، وأقرّها في ما بعد مؤتمر (سان ريمو)، هو التجسيد لهذه الإرادة الشعبية وهذا الطموح الملكي؟!
للأسف، الكثيرون، ومنهم المزاودون باسم الوطن وحبّ الوطن، وباسم الثورة العربية ومبادئ الثورة العربية، يسلكون من حيث يعلمون ولا يعلمون مسلكا يوحي أنّ الإجابة على هذا السؤال هي نعم!
ولكن بالعودة إلى الحقبة التاريخية التي يتحدث عنها الكتابان والمحاضرة، سنجد أن الدولة القُطرية لم تكن أبدا مطروحة لا على الأجندة الشعبية أو على أجندة الحكم المُعلنة، بل هي أجندة المستعمر البريطاني المتنكّر تحت مسمّى "الانتداب"، والمستتر وراء "شرعية دولية" مفصّلة على مقاس الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
الإرادة الشعبية في شرق الأردن وسائر المشرق العربي في تلك الحقبة كانت تتجه قلبا وقالبا نحو "الوحدة"، سواء الوحدة في إطار الجامعة العربية (القوميون)، أو الوحدة في إطار الجامعة الإسلامية (الإسلاميون)، أو حتى الوحدة في إطار الجامعة الأممية (اليساريون/ الشيوعيون).
وأحداث كثيرة كان ينبغي أن تقع، وترتيبات كثيرة كان ينبغي أن تُتخذ، ومن بينها إنشاء وتكريس ذلك الكيان الصهيوني المسمّى "إسرائيل"، كي تتمكن "القوى المهيمنة" من لجم وتحجيم هذه الإرادة الشعبية الوحدوية، ومن جملة ذلك استعداء هذه التيارات الوحدوية على بعضها البعض، واستعمالها ضد بعضها البعض، مرورا بعام 1957 وما تلاه من أحداث صعودا، ووصولا إلى "حرب الخليج" عام 1990 كتاريخ مفصلي آخر في هذا السياق، وليس انتهاء بـ "الربيع العربي" الذي تبيّن فيما بعد أنّه ليس عربيا تماما!
وبالمثل، فإنّ وجهة الأمير عبد الله الأولى كانت إلى "دمشق" وليس إلى "عمّان"، وتأسيس "إمارة شرق الأردن" كان يفترض أن يكون إجراءا مؤقتا لحين تهيئة الظروف لإعلان "سوريا الكبرى" إمضاءً للوعد الذي سبق وأن أخلفه البريطانيون مع الشريف "الحسين بن علي".
ومن هنا على سبيل المثال كان رفض الأردن والملك عبد الله الأول توقيع ميثاق "جامعة الدول العربية" سنة 1945، أي بعد حوالي (24) سنة من تأسيس الإمارة، بكون هذا الميثاق ينص على احترام سيادة الدول القُطرية العربية التي ظهرت على الساحة تلك الأيام، وبالتالي انتهاء المشروع الوحدوي ومشروع "سوريا الكبرى" فعليا بكونه ينتهك سيادة هذه الدول.
ولولا الضغوط الكبيرة التي مورست على الأردن حينها من البعيد والقريب، لربما استغرق الأمر عقودا طويلة قبل أن يوقّع الأردن على مثل هذا الميثاق!
خلاصة الكلام أنّ الأردن الحقيقي، أردن "الإرادة" و"الطموح"، أردن "الثورة العربية الكبرى"، هو أردن "وحدويّ" بالضرورة. أمّا مشروع الأردن "القُطري"، أيّا كانت حيثيات هذا المشروع، فهو انقلاب على الأردن، وأصحاب هذا المشروع هم ضد-أردنيون (anti-Jordan)، وهم يسيئون إلى "الأردن" بمثل الافتراءات المنسوبة إلى (ماري ويلسون) أو يزيد، وهم يجعلون من "الثورة العربية الكبرى" ثورة ضد الجامعة العربية و/أو الإسلامية، وليس ثورة ضد مثالب الحكم العثماني في مرحلة ضعفه وما ألحقه من ضرر بهاتين الجامعتين.
بكلمات أخرى، "الأردن" بلا امتداده العربي وعمقه الإسلامي، فِعلا لا خطابا، هو تفنيد لفكرة "الأردن" وتفريغ لها من مضمونها. و"الوطنية" الأردنية تبقى عبارة جوفاء وخالية من المعنى ما لم تكن موجّهة دائما نحو امتدادها العروبي وعمقها الإسلامي، وعندما نقول "الإسلامي" فإنّنا نعني الإسلام بمعناه الأوسع كإطار حضاري جامع الدولة تفصيلة من تفصيلاته، وليس الإسلام كمشروع سياسي محرّف أو موجّه تحاول أن تحتكره أو تختطفه هذه الجهة أو تلك ومن بينها الأنظمة العربية الرسمية نفسها.
بالعودة إلى محاضرة "جمعية الشؤون الدولية"، أسئلة وتعقيبات مهمة طُرحت من قبل الحضور بعد أن أنهى المتحدثون كلامهم، لعل أهمها ما طرحه معالي الدكتور "صبري ربيحات". وقد وعد الدكتور "العدوان" والقائمون على المحاضرة بتنظيم فعالية لاحقة للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها بعد أن يكون الكتاب قد نال نصيبه من القراءة من قبل الجمهور. وأنا شخصيا متحمس لهذه الفعالية، ومتحمس لقراءة كتاب الدكتور "العدوان"، ولا يراودني حماس مماثل لقراءة كتاب (ماري ويلسون) لأنّني لا أثق بـ "السيد الأبيض" عموما، ولقناعتي أنّهم حتى في صدقهم معنا كاذبون.