قراءة في مشروع قانون الجرائم الإلكترونية
د.طلال طلب الشرفات
25-07-2023 06:56 PM
ليس حصيفاً القول بأن مشروع قانون الجرائم الإلكترونية قد جاء خالياً من اي عيب أو ملاحظة، وقد تكون مخاوف الساسة وبعض رجال الصحافة والإعلام ونشطاء منصات التواصل الاجتماعي مشروعة تحتاج إلى من يبددها أو يخفف من وطأة آثارها؛ التي حتماً ستنعكس على طبيعة المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي برمته، وقد يعكر مزاج أولئك المؤمنين بأن الحكم الدستوري الذي يقرر بأن الحرية الشخصية مصونة يفترض أن يكون فضاء حرية القول والرسم والنشر والبوح هي خالية من كل قيد.
ولعل الأسباب الموجبة للمشروع التي حددت الأهداف والفوائد ومناط التشريع بصورة موجزة قد فتحت باب المخاوف والقلق المبرر والمبرمج لمناهضة مشروع القانون وإلى الحد الذي طالب فيه الكثيرون برده وسحبه والاكتفاء بالنصوص النافذة حاليا وبأحكام مسبقة؛ في حين أدرك البعض الآخر اهمية هذا المشروع الذي سيساهم في لجم مظاهر اغتيال الشخصية واستخدام الوسائل الإلكترونية في الابتزاز والاحتيال والتسول الإلكتروني، واختراق البيانات الرسمية والخاصة، والتي من شأنها الإضرار بالدولة والأسرة والمجتمع، ومحاربة خطاب الكراهية وازدراء الأديان اللذان أضحيا يغزوان المجتمع ويهددان السلم الأهلي ويضران بالأمن الوطني وقواعد العيش المشترك.
لقد نصت الأسباب الموجبة لمشروع قانون الجرائم الإلكترونية على أنه نظراً للتطور السريع في مجال تقنية المعلومات الذي استوجب تجريم بعض الأفعال التي تتم بوسائل إلكترونية ومعاقبة مرتكبيها تحقيقاً للردع العام والخاص، ولمواءمة القانون مع الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات المصادق عليها من المملكة والمعايير الدولية بما يضمن مكافحة الجرائم الإلكترونية؛ وفقاً لأفضل الممارسات المعمول بها كونها من الجرائم الخطيرة محلياً ودولياً.
وكذلك لتوفير الحماية للحقوق والحريات العامة والخاصة من الاعتداء عليها كالابتزاز والاحتيال الإلكتروني والحض على العنف والكراهية وازدراء الأديان، وانتهاك حرمة الحياة الخاصة والاعتداء على وسائل الدفع الإلكتروني، والخدمات المصرفية وحماية البنى التحتية الحرجة، ولإعادة تنظيم بعض إجراءات الضابطة العدلية والإجراءات القضائية للوصول إلى عدالة ناجزة وناجعة، ولتنظيم العلاقة مع منصات التواصل الاجتماعي خارج الأردن.
والحقيقة أن أحد أهم الأسباب لوضع هذا المشروع هو ضبط حالة الانفلات غير المسبوق في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وسد الفراغ التشريعي الناجم عن غياب حجية الوسائل الإلكترونية الحديثة في الإثبات الجزائي، وتعظيم دور الغرامة الجزائية كإحدى وسائل تحقيق عوامل الردع العام والخاص في ضوء تراجع دور الحبس في تحقيق الردع وعدم قدرة مراكز الإصلاح على استيعاب أعداد كبيرة وشيوع العقوبات البديلة وقرارات وقف تنفيذ العقوبة.
معايير الردع تغيرت في المجتمع الأردني، وتغليظ عقوبة الغرامة تصب في هذا الشأن، وفي الغرامات عادة لا يفكر المشرع في مبدأ الجباية؛ لأن الهدف عادة من التجريم يتجاوز كثيراً مخاوف الجباية إلى مساحات الوجع المالي التي قد تثنيه عن ارتكاب الجريمة الإلكترونية سيما مع شيوع الوسائل الحديثة في ربط تقديم الخدمة العامة مع تحصيل المال العام.
لم يكن المشرع موفقاً في تعريف المصطلحات والأصل أن يترك تحديد المفاهيم لقاضي الموضوع الذي من واجبه السعي الحثيث للوصول إلى معنى المصطلحات ومفهومها وفق قواعد العدالة الناجزة وواقع الحال في القضية المنظورة ووفق المذكرات الإيضاحية للقانون، حتى وأن كان التعريف من خبراء فنيين متخصصين؛ لأن تحديد معاني المصطلحات من ناحية فنية في النص التشريعي لا يمكن أبداً أن يحيط بكل آفاق المعنى، وقد يُحصر التجريم في الأمثلة المعطاه في التعريف، وتلك سياسة تشريعية تخلت عنها معظم الدول المتقدمة في الصياغة التشريعية.
إن التداخل الفني واللغوي في تحديد حدود وضوابط المصطلحات تستوجب من المشرع إرفاق مذكرة فنية ولغوية تفصيلية مع المشروع؛ ليتسنى للبرلمان بغرفتيه أن يحيط بتلك المعاني عند مناقشة المشروع، ولتكون عوناً للقاضي عند تفسير تلك المصطلحات، ذلك أن إسراع المشرع باللجوء لتعريف المصطلحات إنما يشكل هروباً من سبر غور اللغة واستسهال التفسير مما يشكل معه خروجاً على قواعد وحرفية الصياغة التشريعية الناجزة.
يخطئ من يظن أن المشرع قد جرّم أفعالاً جديدة، ويخطئ أكثر من يعتقد أن المشرع قد لامس حواف النقد المباح وحرية الرأي؛ ذلك أن المشرع الدستوري قد حرص على حماية الحياة الخاصة في المادة (7) منه بالقول: " كل اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليها القانون"، وقدّم هذا النص على الحكم الوارد في المادة (15) من الدستور والمتضمنة: "تكفل الدولة حرية الرأي ولكل أردني أن يعبر عن رأيه بحرية القول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط ألا يتجاوز حدود القانون"، وقيد النص الأخير بالالتزام بأحكام القانون لخلق حالة من التوازن بين حرية الرأي من جهة، والاعتداء على الحريات العامة والخاصة من جهة أخرى.
والحقيقة أن ثمَّة شعرة دقيقة تفصل بين حدود حرية التعبير، وانتهاك حرية الآخرين، فعهد المشرع الدستوري والقانوني إلى قاضي الموضوع لتحديد ملابسات هذا التلامس الخفي بين هذه وتلك، ولتقرير الحدود الفاصلة بين ممارسة الحق والانتهاك الذي قد يصل إلى مستوى الجريمة، وهذا أمر لا يستدعي كل هذا الجدل المتعمد والخلط غير المبرر لإثارة المخاوف والرعب المصطنع.
صحيح أن الحكومة قد أعلنت في أسباب المشروع أنه قد جاء استجابة هذا القانون وتنفيذاً للاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة (2012)، والهادفة لتحقيق أطر التعاون بين الدول العربية لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات لأسباب أمنية وسياسية واجتماعية؛ إلا أن هناك ثمَّة أسباب حقيقية وملحة لوضع هذا المشروع والدفع به إلى مجلس الأمة تتمثل في معالجة الخلل الواضح في منظومة القيم الاجتماعية والوطنية.
النقد المباح للسياسات والقرارات والتشريعات وأداء المشتغلين في حقل العمل العام حق دستوري مشروع لا نقبل المساس به، وسنبقى نناضل من أجل حرية الإعلام والصحافة والتعبير وفق المعايير الدولية وخصوصية قيم المجتمع الأساسية التي تحفظ السلم الأهلي ومنظومة الأمن الوطني الشامل الذي يكرّس مفاهيم السيادة الوطنية وسد ذرائع التدخل الخارجي والاستهداف الممنهج.
لقد حرص مشروع القانون على تغليظ عقوبة اغتيال الشخصية بوسائل إلكترونية والمجرمة أصلاً في قانون هيئة النزاهة واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، ذلك أن القضاء هو الفيصل في التفرقة بين حرية التعبير والنقد المباح وما بين انتهاك الحياة الخاصة أو اغتيال الشخصية، أو ازدراء الأديان، أو إثارة الكراهية، وإن كان هناك ثمَّة تداخل بينهما تقتضي من مجلس الأمة عند مناقشة القانون إزالة هذا التداخل واللبس الذي قد يجعل النصوص تخضع لاجتهادات مختلفة.
العقوبات المالية المتمثلة في الغرامات وعلى قسوتها؛ إلا أنها تشكل عامل ردع خاص وعام كبيرين؛ لأن معايير الرد تغيرت مع تغير منظومة القيم السياسية والاجتماعية والوطنية لاعتبارات متعددة، وإذا كنا مع تخفيفها إلا أن المشرع يعي فعاليتها الشديدة في ضبط المخالفين لأحكام القانون، ويدرك الجميع أن ظاهرة السطو على سيادة القانون قد أضحت سلوكاً شائعاً.