«حتى الثورة في بلد عربي.. ممكنة».. هكذا عنونت احدى الصحف الفرنسية الشهيرة صفحتها الرئيسية يوم امس.. وما ينطوي عليه العنوان أو يستبطنه, مكتوب على «الجدار».. فقد كانت العرب قبل الرابع عشر من «يناير» 2011 في نظرهم.. امة ميتة, أرعبها الاستبداد واستكانت للفساد وعصابات السرّاق, الذين يتصدرون المشهد العربي, وبات القهر عنوان المرحلة العربية التي تجذرت, وخصوصاً مرحلة ما بعد الاستعمار, وكأننا استبدلنا الاستعمار «الداخلي» بالاستعمار الخارجي, الذي رحل «مادياً» لكنه بقي موجوداً من خلال «النخب» التي تم تلميعها وتلبّست لبوس الوطنية, او رطنت بشعاراتها ثم ما لبثت أن ادارت ظهرها للجماهير وتنكرت لدماء ضحايا الاستقلال, وراحت تنهب الثروات وتصادر الحريات وتستثمر «ريع» رطانتها الوطنية, ولم تعد مفردات الديمقراطية والحرية وخصوصاً تداول السلطة سلمياً, تعني شيئاً في قاموسها السلطوي الاستبدادي, وفتحت «صفحاته» على مفردات العمالة والتخوين وانعدام الوطنية عن كل من رفض منطقها أو خالفها الرأي, أو اجتهد في شأن «وطني» ما..
احتكروا الوطنية والحقيقة, وسقطت مفاهيم المواطنة وحقوق الانسان, وتسيّدت الفهلوة وسياسات الافقار والتمييز والفساد, على نحو باتت هي القاعدة, اما العدالة وسيادة القانون والمساواة فغدت الاستثناء, فاستكانت الناس أو هكذا شبّه لهم, فامعنوا استهتاراً وتهميشاً للشعب وسادت ثقافة الاقصاء والتجويع والسجون.
لم يتعظوا من المصير الذي آل اليه نيقولاي شاوشيسكو, الذي وقبل أربعة ايام من سقوط نظامه, وفيما كانت شرارة الاحتجاجات تنطلق من مدينة تيمشوارا, التي قابلتها اجهزته القمعية بالرصاص, قال من طهران «إن اثمرت شجرة الصفصاف, فإن رومانيا ستتغير», لكن مصيره تحدد وكانت النهاية المعروفة (رغم ان المحكمة او ما وصف كذلك, كانت مرتجلة وتفتقر الى أبسط قواعد العدالة, وكنت كتبت هنا مقالة في حينه عن ذلك)..
مضت معظم الانظمة في طريقها الذي لم تحد عنه, الا نحو مزيد من القمع والقتل والمصادرة على الحريات, فازداد الناس غربة وقهراً ولم يعد الاستبداد معيباً, بل صار صنواً للحزم وعنوانا للاستقرار وزهواً بشعبية, تتعهد تنظيمها واخراج طلبة المدارس والغلابا جهات معروفة ذات تخصص, ترمي اليها بعض الانظمة بفتاتها, فتلهج ألسنتها والاقلام بالامتنان والعرفان..
كان قبل الحالة الرومانية «الصارخة» شاه ايران, الذي تسلم درع «الوكيل الحصري» للمعسكر الغربي, وارتضته «سي آي ايه» شُرطياً للمنطقة بأسرها, حليفاً لاسرائيل ومتآمراً معلناً ضد كل ما هو عربي قومي وتقدمي, مجاهراً بالعداء لعبدالناصر, وساعياً الى تطويقه واطاحته, مسدداً «جبلاً» من الفواتير والاستحقاقات التي ترتبت عليه, بعد أن أطاح الاميركيون حكومة الدكتور محمد مصدق, واطلقوا بعدها يد «السافاك» الباطشة, لتسفك دم الايرانيين ولتؤسس لحلف ثلاثي, ارادوا له أن يحمل اسم بغداد, ثم بعد سقوط مشروعهم المشبوه على يد الجماهير العربية (هل تذكرون؟) نحتوا اسماً آخر لحلف بديل (السنتو)..
الشاهنشاه (كما آخر الاسماء التي خلعها على نفسه محمد رضا بهلوي), أطاحته ثورة شعبية عارمة كان شعارها «الاكفان البيضاء» التي حملها المتظاهرون على أكتافهم, رسالة لقوى البطش بأن بديل انهيار النظام هو الموت, وكان للايرانيين ما ارادوا, فهرب الشاه وحاول شهبور بختيار استدراك الامور لصالح الشاه المخلوع, لكنها خرجت عن نطاق السيطرة, فتاهت طائرة الشاه الهارب في الاجواء, بحثاً عن ملجأ اخير, ولم يجد سوى أنور السادات يستقبل هذا الذي تآمر على مصر والعرب طوال جلوسه في قصره الامبراطوري..
لم يتعظ معظمهم ولم يحاول أحد استخلاص الدروس والعبر, فغدت أنظمة متخشبة وهشة ومرتهنة للأجنبي, الذي يتخلى عنها بعد انهيارها أو يوعز لاسقاطها, بعد أن تكون قد استنفدت مهمتها وغدت عبئاً عليه وعلى مصالحه..
ما أشبه الليلة بالبارحة.. بارحة تشاوشيسكو وشاه ايران وماركوس الفيلبين وبينوشيت تشيلي ودوفالييه هايتي ومنغسستو هيلا مريام الاثيوبي, وغيرهم وغيرهم..
Kharroub@jpf.com.jo
(الرأي)