بالرغم من مرور اكثر من ثمانين عاما على أول دخول للتلفزيون لحياة الاسر العربية وتراكم الأعمال الفنية والدرامية بمختلف اللهجات والالوان واقبال الناس على متابعة الاعمال والمسلسلات إلا أن القليل مما قدمته القنوات بقي عالقا في اذهان الناس ودخل حياتنا ولغتنا وتفاعلاتنا كاقتباس او "اوفيه" لا يخطئ غالبيتنا في كيفية استخدامها او الاستجابة المناسبة حال سماعها.
في هذا السياق اتوقف كثيرا عند عشرات "الاوفيهات" التي نجح الكتاب السوريين من امثال نهاد قلعي والماغوط وزكريا تامر وغيرهم في نحتها وتضمينها للمشاهد التي أداها دريد لحام وياسر العظمة وصباح الجزائري وياسين بقوش ببراعة وتجلي لتخترق كل تشكيلات قناعتنا وتجد لنفسها مكانا رحبا واسعا في مخزوننا اللغوي والثقافي والوجداني.
فلا زلت أذكر جيدا "اوفيه" اذا أردنا ان نعرف ما في إيطاليا.. يجب أن نعرف ما في البرازيل" ولا يمكن لأحد منا ان ينسى "اصابيع البوبو الخيار".. ولا مختار ضيعة تشرين وتكتيكات الدغري.. فكلها مشاهد من مواقف تتكرر وتتخذ رمزية تجعلها قابلة للاستخدام في مواقف اخرى غير تلك التي استخدمت فيها اول مرة.
صحيح ان لا أحد يرى في مسلسل "احلام ابو الهنا" عملا استثنائيا يضاهي ما قدمه دريد ونهاد من مسرحيات واعمال تلفزيونية في سبعينيات القرن الماضي إلا ان المسلسل الذي كتب أحداثه كل من حكم البابا وسلمى كركوتي واخرجه هشام شربتجي يصور ببراعة انكسار الإنسان العربي وحجم الإجهاد الذي يعاني منه الفرد وهو يتلقى الخيبات واحدة تلو الأخرى.
بالرغم من ان العمل قد انتج في منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلا أن محتواه ومضامينه ورسائله تعبر عن اوضاع الانسان العربي اليوم. فعبارة "يا مغيث" التي كان يرددها دريد لحام في معظم المشاهد هي اصدق تعبير عما يمكن ان يقوم به الفرد العربي في مجابهة الفقر والبيروقراطية وتجبر السلطات وازدراء الأثرياء الجدد له وهيمنة الشعور بالعجز على فكره ووجدانه ولسان حاله وهو يستمع للوعود والتبريرات وردة فعله تجاه حالة انسداد الافق وضبابية الرؤيا وعبثية المزاودين.
لدى الكثير من الناس احساس باختفاء او تلاشي معايير الصدق والطهارة والموضوعية وخوف من توسع قاعدة المحترفين لمهنة تزييف الوعي وتفرغ البعض لتجميل القبح والدفاع عن الاخطاء ونحت المقاربات التي تخدم انتهازيتهم.
يا مغيث او "يا مغيس" التي يستخدمها غوار في كل مرة ينهض فيها لمجابهة تحد من التحديات التي يعرف انه لا يقوى على مجابهتها مهمة كجرعة امل لمن لا يصحو وهو يعرف ان اليوم لن يكون افضل من الامس ولمن يحاول ان يطارد الفرص التي يجري الحديث عنها ولا يجدها
منذ ايام لا بل اسابيع هاتفني احد الشباب الذي يحمل درجة جامعية في الهندسة وطلب مني مساعدة في ان اتحدث مع احد صناع القرار فلديه الرغبة بأن يلتحق في احدى المؤسسات التي يمكن ان تستخدم امثاله وقد قال لي انه تقدم بالطلب وتحدث مع كل من يقف على ناصية القرار وتلقى وعودا بين غد وبعد غد ولم يحصل شيء.
اتصلت مرارا على هواتف لا أحد يجيب عليها وتحدثت مع اخرين لا علاقة مباشرة لهم وادخلنا الشاب في دائرة لولبية لا نهاية لها.. واليوم حدثني فتذكرت دريد لحام واحلام ابو الهنا وعبارته الشهيرة "يا مغيس".