الأردن ليس مجرد خلفية مكانية جيدة للأفلام
اللواء محمد البدارين
23-07-2023 07:50 PM
كل تلك الأشياء التي نحاول وصفها ، فلا نستطيع ، هي من النوع الذي قيل عنه ، هي أشياء لا تشترى ، لأنها تقع في ذلك الجزء العميق في داخلنا ، وربما لها علاقة بما يسمى الدولة العميقة في اللغة السياسية ، وهي تشمل في ما تشمل كل ما يربط الانسان بالمكان وناسه ، فحين تخلى غيفارا عن جنسيته الكوبية ، كتب بانه يتخلى عما بمقدوره التخلي عنه ، لكنه لا يستطيع ان يتخلى عن تلك الوشائج غير القابلة للوصف التي تربطه بكوبا ، ويبدو ان هذا هو سؤال الكينونة الأبدي ، فالأوراق لا تثبت أي شيء في ذلك العالم اللامادي المتغلغل في الأعماق ، الذي لا نعرف منه سوى تعبيراته الرمزية المشفّرة ، التي تتجاوز نطاق الكلام ، حتى باتت حمايتها عملا من اعمال هيئة الأمم المتحدة ، انها مسألة علاقة الانسان بمكان ما يشعر بأنه وطنه وبناس في ذلك المكان يشعر انهم شعبه.
وفي الأردن ، الذي تربطنا به وشائج ليس بمقدورنا نزعها ، نعرف انه ليس هناك من بيده حل وربط ، اكثر من الحكومة او مجلس الوزراء ، ونعرف ان وظيفة الحكومة أصلا ، هي رعاية مصالح شعبها ، كما نفهم عدم جدوى التذرع بمبررات الأوامر من فوق للتهرب من المساءلة ، فالأوامر الملكيّة خطية كانت ام شفوية لا تعفي أحدا من المساءلة ، والجهات السائلة ، هم : المواطنون ، ونواب المواطنين ، والسلطة الرابعة او الاعلام ، وجماعات المجتمع المدني ، وحتى في منطق الخلوات الذي ساد في بلادنا أيام القرية الكونية ، واعلن أصحابه بأن الدولة عبارة عن شركة ، فان للمساهمين والزبائن حق المساءلة ، ورضاهم مسألة حساسة ، تتعلق مباشرة بالأرباح والحصة السوقية وبقاء الشركة في السوق.
وفي هذا السياق ، نستذكر ان رئيس الحكومة الحالي ، رد على مداخلات بعض السائلين ، متحديا ، بأن حكومته ليست اكثر الحكومات الأردنية اقتراضا ، انه يفتخر ليس بان حكومته لم تقترض او انها الأقل اقتراضا ، بل يفتخر بأنها ليست الأكثر اقتراضا بين الحكومات ، بمعنى انها قد تحصل على المرتبة الثانية او قبل الأخيرة او منزلة بين هاتين المنزلتين في مضمار الاستدانة والاقتراض.
وبطبيعة الحال ، ليس بوسعنا ، التأكد من نزاهة المسابقة بين الحكومات الأردنية الكثيرة جدا ، لنعرف على وجه اليقين أيها الأقل اقتراضا وأيها الأكثر اقتراضا ، لكن ما يهمنا ان موضوع المسابقة هو الاقتراض والمديونية والوضع الاقتصادي ، واختصارا للوقت ، فإننا نحيل الراغبين والراغبات بمعرفة شيء عن مخاطر الديون ، الى مقال بهذا الشأن للكاتب الاقتصادي المعروف المرحوم فهد الفانك نشره عام 2016 في صحيفتي الرأي والجوردن تايمز ، بعنوان من يسدد الديون ، او) who will pay the public debt).
و ربما يكون من المفيد ، أيضا ، ان نتعرف على رأي رئيس وزراء سابق ، في هذا الشأن ، حيث يقول في اخر بياناته الوزارية ( ان كل قروض العالم ومساعداته ، لا تكفي لبناء الوطن وتشييده ، وانما يبنى الوطن ويشيّد بعرق المواطنين وتضحياتهم ، بسواعدهم الملتفة وعزائمهم المتحدة ، بسهرهم الدائب وتعبهم الموصول ، بإرادتهم التي لا تقهر ، وايمانهم الذي لا يضعف ولا يلين ).
لكن رأي ذلك الرئيس ، على ما يبدو ، لم يكن مقنعا للرؤساء اللاحقين ، فما ان غاب عن الساحة ، حتى تمادى الرؤساء بعده بالاقتراض والاستدانة ، وكان احدهم يطمئن السائلين ، بان القروض الأردنية من النوع الميسر وطويل الاجل ، وتخصص لمشاريع ذات جدوى اقتصادية ، ومن أرباحها يمكن تسديد القروض وتحقيق فائض مالي ، فيما بدد رئيس اخر كل القلق العمومي بقوله ان رأسمالنا في هذا البلد هو الحسين ، ولكن ، للأسف ، بعد وقت قصير من تصريحه هذا ، انهار الدينار الأردني وعصفت بالبلاد احداث جسام ، لا تزال البلاد عالقة بتبعاتها وتداعياتها غير المباشرة.
وفي وقت لاحق ، احتارت احدى الحكومات في كيفية الاستفادة مما سمي في حينه المنحة الخليجية ، لان امر الصرف من المنحة كان مشروطا بتقديم بيانات تفصيلية عن مشروعات حيوية ، فكان ان ضاق الوقت ، فهرع الرئيس مضطربا او متظاهرا بالاضطراب ، الى وزارة التخطيط لحث الكادر المختص على الإسراع بتقديم خطط لمشاريع قابلة للتمويل ، ويبدو انه كان هناك تباطؤ او خلل في تقديم البيانات اللازمة لمشروعات مستوفية لشروط المنحة.
تلك مجرد امثلة ، لكننا قبل ذلك وبعده ، ندرك انه حين يكون قدر المرء ان يولد في مكان ما من الشرق الأوسط ، فان عليه ان يتحمل تكاليف العيش في عالم لانهائي من الاحتمالات والقصص الخيالية ، كقصة العقرب والضفدع ، عندما كانا يحاولان عبور النهر ، الذي يقال انه نهر الأردن.
كما ندرك انه اذا كان المرء اردنيا على وجه الخصوص ، فانه سيكون قادرا على التخيل اللانهائي ، ولا يحتاج للتشجيع على ان يطلق العنان لخياله من قبل سعادة السفير الأمريكي المنتهية ولايته ، الا اذا كان السفير يحوم حول نقطة معينة لا يريد توضيحها ، او يريدنا ان نتخيل على طريقة هوليود بالتحديد.
فقد كان سعادة السفير يتحدث بمناسبة اليوم الوطني لبلاده العظيمة ، قبيل مغادرته عمّان ، وقال في خطابه شديد الدبلوماسية ( كانت أولوية السياسة الأمريكية للأردن خلال فترة عملي كسفير ، هي تعزيز نموه الاقتصادي ) ثم يقول ( النمو محفوف بالمخاطر وقد يتطلب التضحية ، لكن الأمر الذي يلقى تقديرًا أقل هو كيف يمكن للنمو الاستفادة من الخيال ) ثم ينتقي شيئا من التاريخ الأمريكي فيقول ( من اللافت للنظر أنّ قرار التخلي عن الوضع الراهن اتخذه أولئك الذين استفادوا أكثر من الوضع الراهن).
ولأنه اعطى للخيال أهمية كبيرة في النمو ، فانه يقول ( للفيلم مكانة خاصة في العلاقات الأمريكية الأردنية ، إذ تتيح لنا صناعة السينما في الأردن التعاون وتعزيز النمو الاقتصادي) ويضيف (من خلال الشراكات التي أقامتها السفارة مع المؤسسات الأمريكية والأردنية ، نقوم بتمويل فصول دراسية رئيسية مع خبراء من هوليوود وأماكن أخرى لتدريب الكتّاب والمخرجين والمصورين السينمائيين في الأردن ، في الواقع ، بعض ضيوفنا الكرام الليلة هم من خريجي برامج الدبلوماسية السينمائية لدينا ).
دبلوماسية سينمائية ، لكننا لا يسرنا ان نكون مجرد خلفية مكانية جيدة لصناعة الأفلام ، على ان في فحوى الخطاب ما يذكّرنا بطروحات أوضح لقادة ما يسمى التيار المدني في الأردن ، الذين تزخر طروحاتهم بمفاهيم ، مثل : الوضع الراهن ، الوضع القائم ، الدولة الريعية ، العقد الاجتماعي الجديد ، الهوية الجامعة..) ونتذكر ان الحكومة السابقة طرحت في أدبياتها العلنية قضية العقد الاجتماعي الجديد في الأردن ، ثم اتهمت بالضعف من قبل كبار قادة التيار لأنها لم تنجح في الالتزام بأهدافه وخاصة الانتقال الى عقد اجتماعي جديد ، مع ان رئيسها حاصل على جائزة دولية عن بحث له بعنوان ( الطريق الصعب نحو عقد اجتماعي عربي جديد : من دولة الريع الى دولة الإنتاج ).
لا حاجة بنا للتخيل ، فنحن نشعر ، ان كل الذين يحومون حول مفاهيم الانتقال من الوضع الراهن الى وضع جديد ، انما هدفهم الحقيقي حل مشاكل الاخرين لا حل مشاكلنا ، ومشاكل الاخرين مفهومة جيدا ، انها تتركز بالتحديد على استيعاب الفائض الديمغرافي الناتج عن صراعات المنطقة ، استيعابا نهائيا مع كل ما يستدعيه ذلك من متطلبات خيالية.
لكننا نشعر ، أيضا ، ان اركان الدولة الأردنية الثلاثة الملك والشعب والأرض تربطها علاقات اعتماد متبادل ، بمعنى انها بنية مركبة حسب نظرية النظم او الأنظمة ، ففي الأردن عالم داخلي ، قد يبدو سهلا ، لكنه دائما كان صعبا في المنعطفات ، ونعتقد انه بات اكثر صعوبة.