بين الحكومة وحق التعبير .. ما أشبه الأمس باليوم
د. اسامة تليلان
23-07-2023 09:43 AM
بدأ حراك المجتمع المدني في المطالبة بتخفيف القيود على حق التعبير وحرية الصحافة منذ الثمانينيات، وقد تركز بشكل أساسي على جهود الصحفيين، ثم تكرس في مجمل الخطاب السياسي للتيارات السياسية خلال أحداث نيسان عام 1989، وبعدها أخذت دائرة المطالبة بالاتساع وانضم لها عدد من الناشطين والشخصيات السياسية وأعضاء من مجلس النواب.
وقد توجت هذه المرحلة بإصدار القانون الخامس للمطبوعات رقم (10) لسنة 1993، ورغم وصف هذا القانون بأنه ليبرالي، فقد ظل مدار نقد من بعض الناشطين وبعض المؤسسات المهتمة في مجال الحريات العامة بهدف زيادة توافقه مع المؤشرات العامة لحرية التعبير.
ومع قيام حكومة الدكتور عبد السلام المجالي بعد انتهاء مدة مجلس النواب الحادي عشر وقبل اجراء انتخابات نيابية جديدة بإصدار قانون مؤقت للمطبوعات والنشر رقم (27) لسنة 1997، متضمناً العديد من القيود على حرية الصحافة، مما أدى إلى إغلاق ثلاث عشرة صحيفة غير يومية، بموجب المادة (51) من هذا القانون.
لقد تمثلت وجهة نظر الحكومة في إصدار هذا القانون، على ما سمي بصياغة قواعد مسؤولية الحرية الصحفية، وذلك من خلال رفع رأس مال الصحف الأسبوعية واشتراط أن لا تقل خدمة رئيس التحرير عن (10) سنوات، بقصد التركيز على الخدمة والتجربة ولممارسة المسؤولية الصحفية.
أما وجهة النظر الأخرى، فقد وجدت في القانون، محاولة للحد من حرية الصحافة بشكل عام، وفرض مزيد من الأحكام للقيود المفروضة أصلاً على المطبوعات والنشر، وبالتالي المزيد من التضييق على حرية الرأي وحق التعبير.
وتجدر الإشارة إلى أن مبررات الحكومة قد التقت مع آراء قطاعات من المجتمع، فقد أدى توجه بعض الصحف الأسبوعية نحو الإثارة والمبالغة إلى إثارة حفظية هذه القطاعات تجاه بعض القضايا التي لم يعتد المجتمع عليها في الصحافة، وإثارة حفيظة جزء من الصحفيين أنفسهم لسوء استخدام بعض الصحف هامش حرية التعبير.
وامتدت هذه الحالة لتشكل أزمة بين هذه الصحف وعدد من أعضاء مجلس النواب، فبينما استند النواب في موقفهم الى الحرص على المصلحة والوحدة الوطنية والحياء العام، فقد رأت الصحف أن السبب يكمن في انتقاد الصحافة لهم.
بالمقابل تبلور موقف عام للعديد من مؤسسات المجتمع المدني باتجاه رفض هذا القانون، وفي مقدمتها نقابة الصحفيين وبعض الأحزاب السياسية والصحف الأسبوعية، وبعض الصحف اليومية.
وقد أخذ الموقف من القانون جانباَ سياسياَ وآخر دستورياً وقانونياً، فبينما اعتبرت بعض مؤسسات المجتمع المدني والناشطين في مجال الحريات أن القانون يشكل محاولة للحد من أصوات المعارضة ويضع قيود على عملية التحول الديمقراطي، فقد جاء الانتقاد الدستوري للقانون على أساس أنه صدر كقانون مؤقت لا يتفق مع الأسباب الدستورية الموجبة له، حسب المادة (94) من الدستور.
وبهذا يمكن تمييز عدة اتجاهات لحركة مؤسسات المجتمع المدني في مواجهة القانون كما يلي:
الاتجاه الأول: تمثل بالأحزاب السياسية خصوصاً أحزاب المعارضة، والأحزاب التي قاطعت الانتخابات النيابية عام 1997، وإلى جانبها بعض قوى المجتمع المدني والنقابات، حيث ربطت هذه القوى في مختلف بياناتها بين قانون المطبوعات والنشر الجديد وتوجهها نحو مقاطعة الانتخابات النيابية لعام 1997، مشيرة إلى الأثر السلبي لهذا القانون، على مسيرة الانفتاح وتعزيز عملية التحول الديمقراطي، الأمر الذي أسهم في تسليط الأضواء المحلية والدولية على النتائج السلبية لتطبيق هذا القانون، ووضع الحكومة أمام محك آخر إذا ما أرادت لهذه القوى العودة للمشاركة في الانتخابات العامة.
الاتجاه الثاني: تمثل بدور نقابة الصحفيين، فقد جاء دور نقابة الصحفيين على مرحلتين، الأولى بدأت قبل إصدار القانون المؤقت، وذلك عندما استشعرت النقابة حجم الضغوط الداعية إلى مواجهة الصحف الأسبوعية، فحاولت العمل على تفعيل دورها وقانونها وميثاقها في أن تتصدى للصحافة التي تخرج عن مسارها، بهدف الحيلولة دون إصدار قانون جديد للمطبوعات والنشر.
فقد أصدر مجلس نقابة الصحفيين في مطلع عام1997 بياناً أشار فيه إلى أن تجاوز بعض الصحف هامش الحريات الصحفية دفع ببعض النواب للمناداة بوضع حد لتجاوزات هذه الصحف عبر سن قوانين وتشريعات جديدة، وحذر البيان من إجراءات رادعة للنقابة بحق المتجاوزين، كما حذر من أي محاولة لتعديل قانون المطبوعات والنشر.
أما المرحلة الثانية فقد بدأت بعد أصدار القانون، حيث تواصلت المشاورات بين نقابة الصحفيين ومالكي الصحف ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحرية الإعلام، وتقرر تنظيم اعتصام للصحفيين في أيار 1997 احتجاجاً على القانون، انتهى بالاشتباك مع رجال الأمن.
ومع صدور قرار الحكومة بإغلاق عدد من الصحف بموجب القانون الجديد أصدر مجلس النقابة بياناً في 28/9/1997، انتقد فيه الحكومة، وناشدها أن تعيد النظر في قرار التعليق من منطلق حرص النقابة على توسيع هامش حرية الرأي والتعبير وحماية للعاملين، وطالبت بفتح باب الحوار معها إلى حين عقد الدورة البرلمانية القادمة للنظر في القانون برمته.
ثم تطور الموقف باتجاه إعلان مجلس النقابة نيته التوجه نحو تقديم استقالة جماعية، وقد تضامنت مجالس النقابات المهنية الأخرى مع نقابة الصحفيين بالتهديد بتقديم استقالاتها، إلا أن نقابة الصحفيين عدلت عن موقفها بالاستقالة، واختارت طريق آخر غير المواجهة تمثل بالحوار مع الحكومة، أو اللجوء إلى رفع دعوى قضائية أمام المحاكم.
الاتجاه الثالث: تمثل في الصحف الأسبوعية، التي لجأت الى الجانب القضائي، إذ تقدمت سبع صحف أسبوعية، بدعوى ضد القانون المؤقت إلى محكمة العدل العليا، التي أتخذت قراراً حمل رقم (226/98) يقضي بعدم دستورية قانون المطبوعات والنشر المؤقت رقم 27 لسنة 1997، وبموجبه، تم إلغاء قرار مجلس الوزراء القاضي بتعليق صدور ثلاث عشرة صحيفة أسبوعية، وإيقاف العمل بقانون المطبوعات والنشر المؤقت.
ثم عادت الحكومة وتقدمت بقانون جديد للمطبوعات والنشر لا يختلف كثيراً عن سابقه، وتمكنت من إقراره من خلال مجلس النواب مستكملا شروطه الدستورية. ويبدو أن قدرة الحكومة على إصدار القانون، قد ارتبط بعدم قدرة مؤسسات المجتمع المدني على التأثير على أعضاء مجلس النواب في ظل مقاطعة الانتخابات من قبل قوى المعارضة، وعدم قدرتها أيضا على إقناع الناس بأن هذا القانون يهدف أساساً إلى وضع قيود على حرية التعبير، أسهم في ذلك طبيعة نظرة المجتمع الى حرية التعبير، حتى شريحة المتعلمين والصفوة الفكرية لم تبد اهتماماً واضحاً بمصير الصحافة، في الوقت الذي كان من المتوقع فيه من هذه الشريحة أن تعمل على إيجاد إتحاد أو تجمع يتمتع بالحرية ويساند صحافة حرة ومستقلة.
ومع ذلك أستمرت عملية معارضة القانون متخذة مساراً آخر، إذ أن الخلاف بين الحكومة وبعض مؤسسات المجتمع المدني والصحافة، قد انتقل من خلاف حول قانون إلى خلاف حول نهج الحكومة في التعامل مع تعزيز عملية التحول الديمقراطي، فما أن برزت حادثة تلوث مياه عمان في صيف عام 1998، حتى قامت الصحافة وإلى جانبها بعض مؤسسات المجتمع المدني بتوجيه حملة نقد مكثفة لحكومة الدكتور عبد السلام المجالي لم تنته أو تتوقف إلا بعد استقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة الدكتور فايز الطراونة.
ومع تشكيل حكومة جديدة حافظت مؤسسات المجتمع المدني التي قاطعت الانتخابات على موقفها المشروط بالعودة عن المقاطعة، ما لم يحدث تغيير إيجابي على صعيد بعض القوانين المنظمة لعملية التحول الديمقراطي ومنها قانون المطبوعات والنشر، وقد أسهمت استمرارية حركة مقاومة القانون في إبقاء قانون المطبوعات لعام 1998 مدار نقاش وجدل بين مكونات المجتمع، وفي إحداث تغيير إيجابي على مستوى رؤية المجتمع نحو حرية الصحافة.
وقد توج ذلك بإصدار قانون معدل للمطبوعات والنشر رقم (30) لسنة 1999، الذي أزيلت بموجبه بعض القيود التي وردت في قانون المطبوعات والنشر رقم (8) لعام 1998، وأصبح القانون المعدل للمطبوعات والنشر رقم (30) لسنة 1999 متقارباً مع قانون المطبوعات والنشر لعام 1993، وأكثر توافقاً مع المؤشرات العامة لحرية التعبير.
وبذلك حققت قوى المجتمع المدني نجاحاً وتماسكاً نسبياً وقد ضمت هذه القوى نقابة الصحفيين والنقابات المهنية وبعض الأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان والكتاب الصحفيين والصحف والناشطين، وبعض مراكز الدراسات التي أسهمت في تسليط الضوء على قانون المطبوعات والنشر، عبر ندوات ومؤتمرات شارك فيها مراقبون دوليون ومدافعون محليون عن حرية الصحافة.
لقد كشفت هذه المواجهة عن أمرين أولهما يتعلق بارتباط قوة أثر مؤسسات المجتمع المدني بثقافة المجتمع وتوجهاته بالنسبة للعملية الديمقراطية، إذ يمكن القول أن مؤسسات المجتمع المدني في مرحلة مقاومة قانون المطبوعات والنشر المؤقت لعام 1997، خاضت المواجهة مع السلطة التنفيذية بشكل منفرد ومنعزل عن المجتمع واهتماماته، فحرية التعبير كواحدة من الحريات الأساسية اللازمة في عملية التحول الديمقراطي غابت أهميتها لدى المجتمع، مقابل قضايا تتعلق ببعض حالات الانفعال لدى بعض الصحف .
أما الأمر الثاني، فقد تبلور في أهمية القضاء المستقل كركيزة من ركائز المجتمع المدني في دعم وتعزيز عملية التحول الديمقراطي، إذ شكل القضاء سواء في حالة إلغاء قانون المطبوعات والنشر المؤقت رقم (27) لعام 1997، أو في رد العديد من القضايا التي رفعتها السلطة التنفيذية على الصحافة، واحداً من أهم الضمانات للحرية الصحفية وحرية التعبير في هذا المجال.
ومن جانب آخر، اتضح أن أثر المجتمع المدني في إحداث نقلات إيجابية على صعيد عملية التحول الديمقراطي، لا يتأتى من خلال مواجهات سريعة وإنما يحتاج إلى مراحل قد تكون طويلة نسبيا، وتحمل بعض حالات المد والجزر وتحقيق بعض المكاسب والخسارة.
وأن الفضاء العام في الدولة، لم يعد حكراً على السلطة التنفيذية، وأنه يحتمل أساليب وسلوكيات غير العنف يمكن أن تحقق المكاسب المطلوبة، وأن أثر مؤسسات المجتمع المدني الإيجابي والفاعل لا يقف عند لحظة حدوث التحول الديمقراطي فقط، وإنما في تعزيز هذه العملية والحفاظ على زخمها ومواجهة حالات التراجع.
بيد أن ما سبق، قد كشف عن قضية محورية، وهي أن أثر مؤسسات المجتمع المدني برز في مواجهة حالات التراجع أكثر من بروزه في مجال العمل على المطالبة بزيادة تعزيز مستوى الحرية الإعلامية، الأمر الذي يجعل من أداء أو أثر المؤسسات ألحاقياً، ويشكل ردة فعل أكثر من كونه يقود الفعل، وقد يكون ذلك مرتبطاً بعوامل تتعلق بالمؤسسات ذاتها وقدرتها على تحقيق الأهداف ، فعلى الرغم من التطور النسبي الذي تحقق لصالح حرية التعبير بعد عام 1989 وكان لمؤسسات المجتمع المدني أثر في تعزيزه، إلا أنه ما زال هناك ما يستوجب القيام به من أجل تعزيز حالة حرية التعبير، بما يتوافق مع المؤشرات العامة، وخصوصاً على صعيد التشريعات وتعددها ذات العلاقة بحق التعبير، وعلى صعيد إحداث نقلات إيجابية في ثقافة المجتمع.