اللحظة التي تتزين فيها ايقونة البريد الإلكتروني الخاص بك بإشعار جديد .. تتحمس وتضع مشروبك الساخن جانباً وتُسرع في الكشف عن فحوى الإشعار … تَنقُر وتقرأ بعد عبارات التحية والسلام ، شكراً .. لم يتم اختيارك لهذه الوظيفة.
تلك المرة التي تعود فيها إلى المنزل مساءً تعلق بدلتك الأنيقة بشعورٍ قاتم خلافاً للشعور الذي ارتديتها به، تقف أمام المرآة وتطالع في قَصَّة شعرك الأنيقة التي اختِرتها لهذا اليوم تحديدا، تحدق ملِياً في صورتك وتنعت نفسك بالخاسر اذ ان المصافحة التي أردت أن تكون في عقد القران …
كانت الوداع الأخير .. بعد أن اكتفاء والدها بجمل الشكر وشعوره أنها فرصة سعيدة بلقائك، لكن عبارة القبول التي انتظرتها لم تأتِ .
تلك الأمسية التي تتصفح فيها على جوالك .. وتتفاجأ بصورة تجمع كل الأصدقاء .. جميع الاصحاب الا انت … إذا لم تكن مدعواً لحفل عيد ميلاد فتتجاوز الصورة بصمت .. وتدرك داخلك انه ربما لم يَعدُّوك صديقاً لهم في يومٍ من الايام .
هذا الموضوع اليوم صعب علي وهي عن جميع المرات التي صَفَعَت فيها في كلمة "لا".. خدنا عن اللحظات التي خُتِم فيها على اوراق رغبتنا بكلمة الرفض وجميع الليالي التي قضيناها ونحن نتجرع مرارة التواجد خارج الدائرة التي اردنا أن نكون بداخلها … عن كل أريد قلناها وكان الرد حظاً اوفر .
بلا خلاف.. تظل واحدة من المواقف التي يتجلى فيها الألم في ابشع صوره، هو إحساس الرفض لحظة إدراكك للحقيقة انك ليس مرغوب فيك في مكان معين أو وسط أُناس معينين.. رفضك من مجتمع كامل أو رفضك من شخص يساوي المجتمع في نظرك.. لن نُكَذِّب حقيقة انه مهما كان ثباتك .. وثقتك بنفسك عالية .. لحظه إدراكك لهذا الشيء ستعصف بك اللحظة ستهز نظرتك لنفسك وسَيُطرح الف سؤال في راسك ..
ما الذي ينقصني ..؟!
من العيب فيني ..؟!
وصدقني.. إذا لم تقطع حبل أفكارك في هذه اللحظة وسمحت للأسئلة أن تتوالى معك ونظرت للموضوع من هذه الناحية فقط فهذه أولى خطوات خسارتك لنفسك ومن خسر نفسه لن يشعر بطمع المكسب طوال عمره .
لا تسمح لقرارات الناس اتجاهك أن تحدد قراراتك اتجاه نفسك ولا تقيم ذاتك بنظرة الناس إليك وثبت في عقلك ان رفضي في مكان معين هو عدم مناسبتي لهذا المكان وليس عدم مناسبتي بالمرة، عامل نفسك بالكثير الذي تعرفه عنها وليس بالقليل الذي عَرِفه الناس عنك .
قد تمر بك لحظة الرفض هذه من مجموعة مُناك أن تكون معهم أو من شخص أنت قبلته بكل ما أُتيت من خيار وهو رفضك بكل ما أُتيَ من اصرار، او في مكان عملك، ولنتفق انه مهما كان طريقة الرفض ظريفة وتغلفت ستكون واضحة ومؤلمة، ولكن إياك أن تعكر صفو نفسك صوت العقل وميزان الحياة يقول انه في وقت محدد ومكان محدد ووسط أُناس محددين ستكون أنت الرغبة والطلب و الاحتياج ووجودك سيقدر وغيابك سيُحَس وسيكون الحصول عليك مسألة حياة أو موت .. كما اعتبرت حصولك عليهم مسألة حياة أو موت .
الفكرة التي تغيب عن خاطرنا أن الرفض جزءٌ من الحياةبوابة لابد من العبورِ منها لأنه من المستحيل أن نكون ملائمين لكل شيء اردناه، ولكننا ننسى او نخاف فنتأمل في العبور من بوابة اقل قساوة هذه الأمنية ولكن الواقع في الحقيقة توقف بلا حركة.
أحيانا تطول لحظات ترددنا خوفاً من مواجهة لحظه الرفض هذه فتكون أنت ذلك الذي غاصَ في غِطاء الصوفِ حتى أُذنَيه .. وقال بصوت مرتفع داخل عقله على الإنسان أن يحدد موقفه بوضوح أيُّ الاثنين اولى بملازمته .. الخوف .. ام الحسرة .. وقساوة رفضٍ مطلوب .
تسأل الثانية، ايُّهم احَقُّ بالمرافقة الَّا شيء ام الخطأ.. تَدُسُّ وجهك في الغطاء وتغمض عينيك بقوة وكأن شيئا حامضاً في فمك.. تكون على وشك أن تَرهَنَ نفسك على خطوه قادمة تسأل عن الحيارى دون سُكر .. المتأملين في التعثر بإجابة على طريق لم يُعَنوَن بالسؤال … الحالمين بمطر لم يُكَثف غيماته … ثم تقرر ان تُماطل و تراهن على رحمة الحظ وكرم الصدف ….
تسأل ثالثةً … سلامة الثبات .. أم خطر الخطى .. هنا يشفق الليل عليك .. يُهدهدك بشيء من نسيمه البارد فيُضجِعك على يمينك ناعساً .. وتومِضُ نجمة .. ثلاثة ومضات … أظنها تقول لك نَم … نَم خائفاً من الغد ..او خائفاً إلى الأبد .
وفي أحيان أخرى … نتلون ونُخرج الممثل الذي بداخلنا تجنباً لهذا الرفض، نتلبس الأشياء لِنشبه من اردناه ونقول في الإدعاء عسى أن ننتمى إلى ما انتمى إلى قائمة رغباتنا، ونكون كل شيء غير حقيقتنا … ليكون الرفض شيءٌ غير حقيقته .
اذكر انني تعمدت أن لا اضحك متصنعاً على مزحتها الساذجة مع انه كان بمقدوري منحُها شيئا من صندوق المجاملات وآثرت أن اختم ذلك النقاش على اختلاف شبه من حاد .. وكان بالإمكان أن أعقِدَ صُلحاً مبتذل، ثم إني تجنبت أن اطيل وقت التنسيق بين ألوان ما سأرتديه قبل اللقاء وكنت عادياً، رَغم فرصِ ان اغدو مختلف .
فلسفتي.. انني أخاف أن تكتب يوماً عني ليس كل ما يلمع ذهباً أو أن تنصح صديقاتها بأن الأشياء ليست كما هي بعد أن تقترب عندما نتجمَّل ونُخفي أصل الطباع .. نحن في الحقيقة نُسَوِّق انفسنا للناس على أننا ورطة .. ظَنُّوا فينا شيئا …. ووجدوا آخر .
تعمَّد أن تُظهر أنت وتجعلهم يحبوا حقيقتك.. أن تكشف أصلك أمامهم على انك شمسٌ حارقة، سيجعل احتمال اختيارهِم لِيكونوا شعباً اسمراً تحت شمسك وارداً، ولكن ان تُخادِعهم بأنَّك غمامة ثم تنقشع بِرياح الأيام سَيلعَنوا حرَّكَ كل نهار ، لا تخداع.. لن يغفر العطشى يوماً لادعائات السراب .
لو كان من شيئٍ يستحق لفت النظر إليه .. هو ان نتمتع بنظرة مختلفة للرفض الذي تعرضنا اليه في حياتنا بشيءٍ من الإنصاف يمكننا القول أن الرفض في أحيانٍ ما يكون مستحقاً الوظيفة المنشودة، ليس من أولى مؤهلاتها انك راغب فيها بشدة، فقد يكون كل شيء دون المطلوب سوى رغبتك الملِحة في الحصول عليه وقبول طرف آخر بك … ليس شرطه أنك تحبه بجنون .. ربما فيك من الصفات ما يفسد المخالطة او القُرب.. المهم أن لحظات الرفض ملائمةٌ جداً للجلوس مع النفس وإعاده التقييم دون لومٍ عليها أو احتقار لقدرها ..
الزاوية الأخرى التي يجدر النظر منها إلى لحظات الرفض أنها بوابة عبور لفرص جديدة إذ انك لم تكن هنا.. هذا يعني وبالتأكيد انك ستكون في مكان آخر … وإذ لم يكونوا لك فهذا يعني أن شباكك حافظت على فراغِها.. فراغِها الذي يعني وبالتأكيد إمكانية حصدِها لشيء آخر..
ومهما اتسع خيالنا لن ندرك كل ما تخبئه لنا الأيام ملامح من سنقابلهم واحاديث من سنجالسهم.. ورائحة الأماكن التي سنكون فيها،
الفَقد لا يُلغي شيئاً.. هو فقط يترك ذات المساحة ليَشغَرها بشيءٌ جديد .
ثم أن الزاوية الاخيرة الجديرة بالوقوف عليها هي أن تعترف إنك أنت المتظلم … والمتألم … والمفروض .. أنت نفسك ترفض فكما عززت لنفسك وأوجدت لها المبررات حينها …
اعترف أن لهم كامل الحق في الَّا يرغبوا فينا.. لهم ظروفهم وتطلعاتِهم .. التي ليس من الضرورة أن تَتمثل فينا.. أولائك الرافضون الأوغاد في نظرك لهم كامل الاستحقاق في أن يختاروا من يتلقونه بالأحضان ومن يُلَوحون له بتلويحة الوداع المؤلمة تِلك ..
ثم اعلم يا صديقي أن التخلي فن … والمفارقة صِنعة ….. ومن جهلهما اعاق قلبه واهدر دمه .. فإن الثري بنفسه لا يغنيه الواعدون ولا يفقره المودعون.
واعلم أن الراحلون صدقة …. وعوض الله اجرها … وان اللئام من بَخلوا على الرحيل بأحد …. و الكرام من زاد والمفارقَ عُذرا … وحرروا رِقاب المجبرين على البقاء ….
بعيداً عن حِنو عبارات المواساة.. نحن بحاجة للإعتراف أن كثيراً ما أوجعنا ويوجِعنا كان بسبب هشاشتنا النفسية وليس قساوة ما حدث …
أقرُّ بنسبية الأحزان … وأن ضياع علبة ألوان طفل قد تحدث نفس الم تحطيم أمنية بالغ وبذات الدرجة الحَظُ وارى أيضا .
أن الكثير من ردات فعلنا الحزينة لا تتناسب مع مرارة المسبب .. حزمة من المآسي .. كان يمكن أن تسمى مشكلات .. وكثيرٌ من الآلام كان أولى أن تمر كمِزاجٍ سيء مؤقت … والعديد من العثرات كانت أضيق من أن تكون بوابة للإكتئاب او القلق .
علينا أن نتعلم كيف نُقيُّض الحزن … ونُلزِمه مساحته .. أن نقلل من تضخيم الأحداث .. ونستعين بقليلٍ من حِكم وأفكار ما بعد التجاوز .. ساعة المشكلة.. الكثير من أحزاننا الكارثية في الحقيقة .. هي من كَدِرِ الحياة الطبيعي والحتمي والمتكرر …
فعلينا إتقان فن تبسيط التعاطي .. ومنطقية النظر .. ومعرفة ان المآتِم ..لا تقام على كل صفحة ..
الحياة ليست أسوأ ولكن نحن اهش وكثيرا ما تُلام الرياح على رقة الأغصان الزائدة.
وعلى الرغم من قساوة لحظات الرفض … إلا أنه في الحقيقة الحياة لا تمنحك لحظات فرحٍ خالصة النقاء، بل دائما ما يَشُوبُ لحظات نيل المراد شائِب .. ويتتطفل على حفلات الفرح المغلقة ضيف غير مرغوب فيه ، لذلك يبقى العزاء أن تتقن فن العزل وتَفرِز ما يصلح للذكرى … عما يستحق النسيان.
في تلك السوانِح الصغيرة التي تمنحها لك الأيام … لحظات غمس أكياس الشاي في الماء الساخن أو دقائق انتظار غليان القهوة وثواني التأمل في فقاعات المشروب الغازي حتى تهدأ.. تجلس لِتُنَقِي ما في حصيلتك.. تَفُضُّ التشابك بين وخز النهايات المحدود .. ولا نهائية ضحكات الأُنس … وتنقي جمال الذِّكرى من شوائب الاقدار .. وتستمتع بحلوِ القصة مدركاً أن لأطيب التمر .. نوى قاسٍ لابد أن يخرَج خام الأقدار لابد أن يعالج في جلسات انصافٍ المتوالية ..
ولا تُرَحَّل الحكايات إلى سوق التذكار .. لتبيع فيها الخواطر وتشتري .. قبل أن تجلى وتغدو ماضٍ .. يَسُرَّ الذاكرين، في الغالب ستستمر الحياة فمنحك اجزاء … أنت من يُكمِل الحكاية ….
في الختام.. لربما عبر قطار قلبك المحطات خالياً لأي شخص على مقاس النقص فيك ينتظر عند المنعطف القادم ومعه تذكرة الصعود …
ولاجل ضِحكة تنفض الغبار عن روحك … أمسكت صغار الضحكات بإيدي بعضها البعض و ابت الخروج إلَّا داوية أو ربما جُرِحَ قلبك مرة ..كي يُغرَسَ الإيمان فيه … وخُضتَ المواجع كلَّها لِتُكتَب صابراً ، وعلى الضفة الأخرى من الخير .. ما سَيُكتبك عند الله شاكراً
ولربما نقضي الليالي وحدنا … لِنُقدس اللحظات إذا التقينا.. وبالعناق نقتصُّ من ألم الفراق بطريقة ما ومن فترة لأخرى.. تَحدُث تسويات الحياة .. تُرمَمُ تصدعات الماضي وتُعوضُ خسارات الأمس بِمكاسب اليوم … ويَقتَصُّ اللاحقون لم اقترفنا في من سبق ….
قد ننسى .. أو لا ننتبه .. لكن الاكيد أن لا أحد يبقى مظلوماً طويلاً ….
وأخيرا مريحة فكرة تسمية الأشياء باسمائها … نهاية وليست مصير … قصة وليس العالم … محاولة … وليست سِدرة المنتهى .