في خِضَم المعركة: ليس سيركا .. بل هي حياتك
معتز الهندي
22-07-2023 08:45 AM
داخل خيمة السيرك الكبرى .. كان المهرج يركب أنفه الأحمر ويضع المساحيق على وجهه استعداداً للعرض ..
على الجانب الآخر هناك لاعب الخفة يجهز أوراقه وأرنبه وقبعته ويرتب المناديل الملونة التي ستسلب الأطفال عُقُولَهم، ومدرب الفيلة يمسح على جلد حيواناته الخشن متحمساً لصوت التصفيق الموعود ، عندما تقف على الكرة بارجلها الضخمة وتدحرجها بين هؤلاء المؤديين كُنت أنت هناك.. مُنَاطٌ بِكَ الدور الأصعب تتجهز لِتؤدي عرضك الأخطر مقدماً التوازن كَفَنٍّ بديع وانت تسير على الحبل، غير انك على خلاف الجميع، المهرج والبهلوان والساحر ومدرب الفيلة، لن تُنهي عرضك بالختام هذه الأمسية لأنها ليست أمسية هي حياتك.. ولأنه ليس سيرك … هي قصتك .
أراك.. تَتَصَببُ عرقاً وباطن قدمك يلامس الحبل المشدود .. تتنفس ببطء وتمشي كذلك .. تستجمع تركيزك لتمضي على الحبل المعلق دون السقوط .. تمشي على الحبل الطويل الممتد بطول حياتك .. ونقيض كل جانب يشدك نحوه .. تتوسل التوازن وانت ماضٍ في طريقك .. الشك يجذبك من اتجاه .. واليقين يجذبك إلى الاخر، العقل يُغريك و العواطف تُغويك … ماضيك بما فيه من قصص وغُصصٍ وآمال كاسِدة ..
يشدك نحوه ويقول عُد ومُستقبلك بأحلامه المؤجلة وأمانيه المتعطلة .. يشدك كمركز الأرض ويقول أنت لي .
موضوعي اليوم ليس للمتوقفين ولا للواصلين، ليست لِخاسِر يواسى او فائِزٍ يُهنى، هي لِمن هم في خِضَم المعركة.. في كل ثانيةٍ يتخيرون ما بين السِّهام والراية البيضاء .. متورطون في هذا الحبل المُتأرجح … عبثاً نحاول أن نعطي كل ذي حق حقه .. ولا قَنُعَ المُعطى ولا رضي المحروم.. تقول أنا لِمن فارتاح وانت للحبل المُعلق … موزَّعٌ بين الجهات … احتمال وارد للسقوط والنجاة معاً .. هو حِرمان التَّحيز وبلاءُ الحياد … هي حياة تماماً كالمشي على الحبل .
تبدأ الرحلة بالطموح المُطلق .. فتمضي في حياتك و مشروعك الأسمى أن تطابق ما بين أحلامك وواقعك .. أن تنال من الحقيقة نَصيبك غير منقوص كما تَشَكَّلَ في الخيال.. فيتَبَدى لك بالتجارب.. ان نقص الأشياء شرط حضورها .. وانه في اللحظة التي تتوقع فيها أن يطير عقلك فرحاً بالكَسْب .. تجد أن على هذا العقل .. أن يهدأ ويبحث عن حيلة لتَقَبُّل ما تمناه بنقص حقيقته لا بكمال تخيله .. وهنا يُختم على جواز عمرك بخِتم مروره من الفردوس إلى الدنيا .
تبدأ المحاولة الثانية وانت مُحَمَّلٌ بهذا التاريخ .. خيباتك الصغرى والكبرى .. فتغدو اكثر اتزاناً في الطلب .. واكثر توقعاً لخيبات الأمل .. وهنا يُكرمك السابقون بألقاب النضج والحكمة والعقل .. ويَذُمَّك الأحداث باوصاف العجز والضعف والخنوع .. وتدرك أنت بِتاريخك المحمول على ظهرك ومستقبلك الطَلِيق امامك .. ان المناعة لعنة .. تسجنك في الوقت الذي تحميك فيه، وهنا يُشَدُّ الحبل على الوتدين .. وتمشي طالب التوازن بين نقيضين .. البراءات البكر والخبرة المكتسبة .. ما تعلمت وما تود أن تكتشفه غالبا ما يقضي الكثيرون حياتهم في خِضم المحاولة الثانية مقدمين السلامة التي هي غريزة على الأمل الذي هو علاوة من العلاوات، فتدرك أن كل شيء في هذه الحياة خاضعٌ لقانون الضريبة والثمن، فلا تشتري التحرر إلا ومعه وِحدتك ، ولا تطلب اللقاء إلا بِيَقينِكَ في الوداع .. ولا تستطعم لِذة البَدء .. إلا وقد تَحضرت لمرارة الانتهاء ولهذا يوجُدِ الأسى مقعدا في المهرجان.
إلا أن المحاولة الثالثة التي هي حُلُم الإنسانية الذي لم يتحقق أن يغلب النسيان الذاكرة ولو للحظة .. أن يمحو التاريخ شيئا من نفسه … أن تستعيد هذه السيقان جَرَائَتها في العدو … وتنسى كيف كان ألم السقوط .. أن تُمحى رهبة الخُذلان من عقلك .. وتَتلَف ذاكرة الجسد،
فيكتفي من الجرح بأثر الندبة … لا بِحُرقة شعوره الأول .. أن يُغسَل لوح الأيام من كل ما دَوَّنه …موت الصداقات … وصوت المودعين … وعناءُ مصارعة الذكرى وحيدا .. لحظة المرور بالمكان الذي وُلدت فيه، ولكن اختارت هذه المرحلة أن تكون حلماً لا يتحقق .. لأنني كما قلت المناعة لعنة .. تسجِنُك في الوقت الذي تحميك فيه ..
هذا أنا، كلما حاولت أن احذف من التاريخ شيئا أُوجد موضعا لبَرَاءةٍ جديدة .. يرد علي تاريخي متهكما رفعت الأقلام وجفت الصحف، فأضُمُ الأوراق إلى صدري .. اقف بِكُلي بين يديك .. مطأطِأً راسي … متأسفاً على عجزي في صنع إنسان جديد ..
لم ينتهِ الحبل … مازال طويلا اسفله أنت بما تريده لنفسك … وهم بما يريدونه منك ولك ، تُؤمن في داخلك أن الناس بالناس وتُؤمن في ذات اللحظة أن الجحيم هو الآخرون، فتتأرجح بين الوحدة والونس … تغدوا كلَفظٍ اعجميٍ هارب من مِعجمة .. لم يَنل احتضان الجملة المفيدة بعد .. يُنطَق فلا يُفهم يُكتَب فلا يُفَسَّر .
تتوزع بين الاعتزال و المخالطة .. تجلس ومن حولك الوجوه كالأشباح لا تعرفها ولا تعرفك .. تبتسم مجاملاً عند كل لقاء .. وطَمَسَت الرياح طريقاً .. كانت البسمات الصادقة .. تسلكه في قوافلها من القلب إلى الشفتين .. تلونت حَدَّ ان نسيت كيف تكون حقيقة لا إدعاء .. تقف أمام مرآتِك كل مساء .. وتكرم نفسك قائلا : أنا الدبلوماسي الوحيد الذي باع كل مواقفه وليت البيعَ تم والثمن قُبِض، فهناك هاوية أخرى تَدعوك ألا تفعل ..
ذاك الصبي القديم لم ينسَ ما وعدته به، لم يشرب الحليب ويغفو كما توقعت، بل بات ساهراً يَنظُرُك ويسأل: أين أنا.. فقل لي بِماذا تجيب؟!.
أعلم، أنت اعقل من الاستجابة لِدعوات التطرف و الاعتزال .. اكثر حِنكةً من راديكالية المواقف، أنت ابن مدرسة من كل بستان زهرة، صاحب اكبر باقة ورد ذابلة … هم لم يقبلوها منك واتهموك بالذوق الرديئ في الانتقاء وذاك الصبي لم يقبلها أيضا .. إذ ليس فيها ما يكفي من مُعتز الذي يحبه … اكمل مشوارك معلقاً كالندى الطائر لا للبحر ولا للسماء … اظُنُكَ للضباب .
بين الشوق والنسيان .. تتأرجح على حبلك من جديد .. يغريك خطاب التخطي في اقتباس التغريدات … وتجذبك الاطلال .. مطلع على كل قصيدة … بين الحب الكلاسيكي .. الشرفة .. والشمعة .. والذكرى .. وام كلثوم …. وبين موجات الغناء الحديث … تقف أنت على محطات الرحيل .. في يدِكَ آخر رسالة كتبها لك .. وفي يدك الأخرى تذكرة العلاقة الجديدة .. تفتح الدنيا أبوابها أمامك أخيرا لكنك تُماطل ..مكتوياً بالشوق ومتحرجاً من النسيان، فترحل ولكن عقيدتك هذه المرة واضحة .
تقول لنفسك مهما ابتعدت .. وأخذتك المسافات بعيداً عما تود، حافظ على خيوط رفيعة ممتدة لا تنقطع على طرفيها قلب وقلب .. أكثر ما فعلنا في حياتنا هو أن نشتاق لمكان أول، او لأناس أولى ان نظل بجانبهم، ولكن برغم قساوة الاشتياق … يبقى خياراً أفضل من النسيان أو التجافي … رهاني على تلك الخيوط كبير، سنصنع منها وشاحاً يُدفِئ هذه الوحشة يوماً ما، وسنفتلُ منها حبالاً يُعدَمُ فيه الاشتياق شنقا حتى الموت ، وإن طال الزمن وحلَّ الشَّيب .. وذهب البصر … ستقودني هذه الخيوط إلى حيث انطلقت بدايتةً …
تقول عن نفسي سأظل اشتاق حتى يعرض التلاقي نفسه كحل او ينتفي النسيان كخيار مقابل، أوليس الشوق حبلاً معلقاً بين حلمٍ وحقيقة بين مشقة وارتياح ..
ختاما …..
الحياة رحلة لا تنتهي من الاتزان … حبلٌ معلقٌ بين التاريخ والآتي بين اليقظة والأحلام بين المنطق والشعور بين الرغبة المتقدة والرغبة المتقدة … وقدرنا ان نسير لا ان نسير فقط ، بل أن نرمي الكرات عاليا ونستعرض مهاراتنا في تلقفها ودفعها في الهواء من جديد ونحن نمشي على الحبل المشدود … ويبقى السير على أية حال فضيلة أملاً في أن تقصر المسافة او يخف الجذب أو يتمرس السائِر في القصة المحتملة، سمعنا صوت ارتطام قوي .. وصرخةٍ داوية تلاشت في الفراغ شيئاً فشيئاً، ورأينا خمسة كراتٍ تتدحرج على الأرض وظل الحبلُ يهتز كأنَّ أحدا كان يمشي عليه.
وفي القصة المحتملة أيضا رأيناه وصل .. رأينا خمسة كراتٍ تطير في السماء كأبها ما يكون … ورأينا طفلاً صغيراً يحمل كوب حليبٍ .. يأتي نحوه .. ويقبله على خده .