ان الذكريات ما هي إلا جملة الصور والخيالات التاريخية التي وصلتنا بين دفات صحاح الكتب واصوات صهيل الخيول العائدة من الفتوحات وغبار الرمال المندثرة في الاجواء التي تنشر اريجا ومسكا وعنبرا لتبث في النفوس العزائم والهمم والهامات العالية للتطلع لمستقبل افضل بعزة الانفس.
ومن الذكريات المرتبطة في وجدان كل مسلم التي تعود على مدار السنون عاما بعد عام ذكرى الهجرة النبوية العطرة، التي لا نكل ولا نمل في الخوض فيها واخذ العبر والدروس فمنذ ١٤٤٥ عام ونحن نستنتج الحكم في كل طرفة عين لاحداث هذه الذكرى.
هجرة خير الخلق نبينا وقائدنا وقدوتنا محمد بن عبدالله، من إخضرت الأرض به وازهرة الأشجار وسارت فوقه السحاب تظله، فاتح الفتوحات، هاجر وخليله وصاحبه عبدالله بن أبي قحافة (ابا بكر) وفي ذلك إشارة إلى أن طريق الحياة الطويل المحفوف بالتحديات يكون زاد المرء وعتاده بها خليل صالح يؤنس وحشته ويشحذ هممه ويقوي عزائمه، فقد قدم ابو بكر في هذه الرحلة اروح الصور في الفداء والتضحية للنبي خشية عليه من إيذاء اي دابة والسهر على راحته أثناء النوم. ومما افاضت علينا الهجرة بالدرس أيضا ضرورة الاخذ بالاسباب فالنبي سلك الطريق الطويل إلى المدينة في محاولة لتضليل اهل قريش عنه وكذلك دور الدليل عبدالله بن اريقط في تزويدهم بالاخبار واخفاء آثار أقدامهم بقطيع الماشية، فالنبي ما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحي يوحى ولكن بالاخذ بالاسباب رسالة إلى أهمية ذلك في تحقيق المبتغى. إن الهجرة النبوية هي هجرة بالدين والمبادئ بعيدا عن الباطل من اجل إحقاق الحق، فمهما قوي ساعد الباطل وعايناه باعيوننا وجوارحنا وشهدنا العامة تتمسك به فهو يبقى سرابا يحسبه الضمأن ماء ولن يروي عطشه.
فاليوم مهما تكالب المتنفذين للمكر بهذا الدين ستبقى شعلته براقة وسيظهر ولو بعد حين.
إن الهجرة هي بداية لطريق دولة الإسلام بما حملتها من ومضات سياسية وإصلاحات جوهرية داخلية في تنظيم العلاقات بين المواطنين على اختلاف طوائفهم وتوزيع الحقوق بعدالة، وسياسة خارجية بعزة الأنفس نحو التوسع والامتداد من أقصى الشرق إلى الغرب بكافة الطرق السلمية والدبلوماسية وقوة النفس ورباطة الجأش والتضحية بالمال والانفس في سبيل خدمة الدين والمقدسات وإعلاء كلمة الله في كل رقعة في هذه المعمورة؛ فقد روى المسلمون بدمائهم الزكية تاريخا مشرقا ضاحكا باسما في التعامل مع كل الأجناس والصنوف ليكون زادا للتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين.
نعم الذكريات ذكرى الهجرة ونعم الدروس محطاتها ونعم الزاد والعتاد تاريخها المشرق ننهل منه في حلنا وترحالنا في كل زمان ومكان ما يعيننا على نوائب وصدمات الدهر .