جانب من فوائد سُلطة "اللا أو النعم": تربوياً وأخلاقياً؛ مآلاً
د. ضرار مفضي بركات
17-07-2023 02:39 PM
إنَّ الخوفَ من الوقوع بالحرج، وفقدان العلاقة بمن نحبهم من الناس، قرابةً كانوا، أو صداقة، أو معلم لطلابه-عند طلبهم لشيء، ورفضنا له- بالمقابل، إذا كان الخوف على (العلاقة) قد يَهدم القوة التي نحتاجها؛ لكي نقولَ: (لا) في أكثر لحظةٍ نحتاجها! خاصةً إذا كانَ قولها ضرورة؛ بالنظر مقارنةً ما لو قلنا (نعم) لما يترتب على ما بعدها من مآلات ونتائج!. فإنَّ من فوائد سلطة (اللا) أنها تجعلُ لنا مساحةً في حماية العلاقات على المدىَ البعيد، من حيث النظر إلى ديمومتها، واستمرارها إذا ما قورن الجواب بــ(نعم).. وبالتالي فإنَّ ترك الجواب (لا) رفضاً مع وجود الضرورة الملحة لها والجواب (نعم) مُجاملةً أو اضطراراً لا اختياراً؛ قد يُهدد تلكم العلاقة واستمرارها، وقد يُعرضنا لكثير من الكلام والملامات، والوقوع بالحرج، وتحمل المسؤولية فيما بعد.
لذا تظهر أهمية هذا المقال، بالتدليل على سلامة (العقل والنية)، والعامل النفسي والتربوي والقانوني لهما، وعلى احترام الذات وسلطتها بــ(اللا أو النعم) وتقديرها، يُعدُ أساس في المسؤولية المجتمعية؛ لبناء الفرد الفاعل، الذي هو أساسٌ في بناء (الفاعلية النوعية) لدى المجتمع ككل؛ بمنهج الاستقراء، والتحليل، والتجريب، وضرب الأمثلة من واقع حياتنا اليومية والعملية والوظيفية، كما يلي:
أولاً: إنَّ سلامةَ (العقل) وحفظهِ عن المفسدات والمضار بالتنشئة السليمة مهمٌ جداً للأجيال، لأنَّ العقل نعمةٌ من نعمِ الله -عز وجل- فالعقلُ في سلامتهِ ونضجهِ، هو توفيقٌ من الله سبحانه وتعالى؛ ولأنًّ العقل مناطُ التكليف، ومصدر مُلهم لنفسهِ، ويلهم غيره, في أن يبدع، ويصنع وينمي العقول الأخرى إبداعاً حضارياً، وثقافياً وإنتاجياً،.. فهذا سرُ الإبداع، والنجاح الحضاري.
ثانياً: إنَّ سلامةَ (النية) بموافقة مقاصد الإنسان، والأغراض للأهداف، يُعد جانباً مهمٌ جداً؛ لتحقيق النتائج النوعية، والطموحات، والتطلعات.. قال: ابنُ قيم-رحمهُ الله-: "وكلُ من لهُ مسكةٌ من عقلٍ يَعلم أنَّ فساد العالم، إنما ينشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكمَ هذانِ الأصلان الفاسدان في قلبٍ، إلا استحكمَ هلاكه ". )الجوزية،1991م: ج1، (68.
ثالثاً: إنَّ أهمية الجانب التربوي، والنفسي، في تحديد المسار الصحيح للإنسان، يعدُ مسلكاً ومنهجاً في تقييم ذاتهِ الشخصية، وتقييمهِ لمن حوله، أو تقديمهم له -عِلمياً وعَملياً- مُتمسكاً بالثوابت، والقيم الأخلاقية، بعيداً عن المنظور المادي البحت، وطرداً لمصالح الذات الأنانية، من طريق ثقافة: (اللا أو النعم) الصادرة من الذات، وهو بهذا لا ينفع نفسهُ، ولا ينفع غيره. وهذا هو السبب في قتل الانجاز والإبداع التعاملي -عِلمياً وعَملياً- في حياتنا المهنية، والاجتماعية، والأسرية، إضافة إلى دورهِ الأساس المتقدم في تحديد مستوى المسار النفسي، والاقتصادي، والسياسي، على المستوين الفردي، والجماعي ككل.
رابعاً: إنًّ احترام الذات وتقديرها يعدُ من أساس في المسؤولية المجتمعية= لأنَّ بناء الفرد الفاعل، أساسٌ في بناء (الفاعلية النوعية) لدى المجتمع ككل؛ لقولهِ تعالى:﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلينا لَا تُرْجَعُونَ﴾(115: المؤمنون).. وبما أنَّ (الثقافة) فلسفة، وقيم خُلقية كما سواءً أكانت فردية، أم اجتماعية؛ فهي تؤثر في تكوين وتنشئة الفرد منذ الطفولة، بحيث تصبحُ نمطاً لصيقاً بحياته، ووشماً مُميزاً لسلوكهِ، يصنع بها كل دقائق حياته، وفق النمط الذي تشكل فيه؛ لأنَّ الثقافة جملةً، هي: (المحيط الفكري، والنفسي، والروحي، والأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي) الذي يحتضن الوجود الإنساني في المجتمع، ويدعمهُ بالخبرة المعرفية، والسلوكية، والأخلاقية، والجمالية..، وفي هذا المحيط تتشكل: (طباع، وشخصية، وذوق " الفرد " الثقافية): المحكومة بالسنن النفسية، والآفاقية. (مقال: خضراوي، أسامة، مشكلة الثقافة..عند المفكر مالك بن نبي، على رابط: (https://www.aljazeera.net/blogs/2019 وبتصرف).
خامساً: أمثلة على العوامل النفسية والتربوية ومجرياتها حول سلطة (اللا) أو (النعم) بالنظر لمآتها ومنها، ما يلي:
1-قبول الهدية من صديق أو قريب، وكانَ يقصد منها الرشوة والمحسوبية؛ لتزامن موقع المسؤولية للشخص المهدىَ لهُ ولأهلهِ، فيقع المرءُ بينَ حرج الرفض بـــ(اللا)، التي تُهدد علاقته بـ قرابتهِ أو صديقهِ بالانقطاع، وبين القبول بـ(نعم)، فيوقع نفسهُ بالشبهة والمؤاخذة فيما بعد.. فيكونُ الاختيارُ هنا مسئولاً عنه ومُتحملاً لما بعدهُ من مآلات.. لذلك تظهر لنا هنا أهمية سلطة (اللا) المُسبقة، والمتزامنة مع هذا الشخص، وبما تعارف عليه الناس من أنهُ ذو هيبةٍ ووقار... فبهذا يُقفل ويمنع لحدٍ كبيرٍ جداً من أن يقعَ بحرج الاختيار: بــ(اللا أو النعم) التي قد يؤاخذ عليها، شرعاً وقانوناً، وهذا لا يمنع التلطف والإحسان بالكلمة والطبع، لكن ليسَ على حساب الثوابت، فوجبَ التنبه، والتنبيه لهذا دائماً. ويستند ما تقدم من أنَّ المنع ومخالفة مقصود الشرع من قبول الهدية، من أننها قد تُتخذ نهجاً مُتأصلاً؛ للحيل، وإبطال الحقوق، فهي تُخرج على قاعدة:(الحيل): التي قال: فيها الشاطبي–رحمه الله-: ((فإنَّ حقيقتها المشهورة، تقديم عمل ظاهر الجواز، لإبطال حكم شرعي، وتحويلهِ في الظاهر إلى حكم آخر، فآل العمل فيها إلى خرم قواعد الشريعة )). (الشاطبي،ج4، (201.
2- المعلم في المدرسة، وهو بواقع المسؤولية تجاه طلابه، فلو رأىَ أحد طلابهِ المعروف عنهم بالأدب والأخلاق، والمتابعة العلمية، لكنه وجدهُ بعض الشيء مُعرقلاً لسير الحصة، فالمعلم هنا يرىَ أن زجر هذا الطالب مع ما تقدم من صفات له، إضافةً إلى طبعهِ الخجول، والى جانب أن السلبية كانت على أمرٍ عفوي صدرَ من الطالب لغير عادةٍ مُنه، ولا بد من الزجر: تربيةً، إذ قد يُؤدي هذا إلى رسوخ سلباً لدى الطالب فيثبطَ من عزائمهِ مُستقبلاً! والمعلم كما هو معلوم قدوةٌ فاعلة لطلابهِ، وأرضٌ خَصبة لحسن تقبل العلوم منهُ، وهذا دورٌ وجانب مهمٌ جداً في الجانب النفسي، المعزز للجانب التربوي، والتعليمي، بصورة عامة.
وبالتالي تظهر هُنا حِنكة المعلم، بين سُلطة (اللا) التي تترك له مساحةً كبيرة على المدىَ البعيد لدى طلابه ككل، وبين السكوت مثلاً عن تصرف هذا الطالب؛ لوضعهِ الخاص، ولنشاطهِ العلمي، ولأنهُ تصرفَ بعفويةٍ!. فهنا يظهر دور المعلم "القدوة الحسنة"، بأن يجعل ذلكم الموقف في تلكمُ اللحظةِ من الحصة درساً تعليمياً، توجيهياً، يتخللهُ القليل من العتاب، إلى جانب كثير من النصح، والإرشاد النفسي، التربوي و(التعليمي) بل وان استطاع ربط الموقف بموضوع الدرس، فهذا من التميز الريادي للمعلم القيادي والبناء.
3- الموقف الذي يحدث داخل الأسرة، ويتعرض له الأب أو الأم، من أن (النعم) موافقةٌ على تصرف الابن الخاطئ، قد تُفضي إلى تمردهِ وإفسادهِ، وبين المحاولة باستمرار أن لا نغلبَ الرفضَ بــ(اللا) باستمرار؛ خشيةَ النفور من جو سماع النصح والكلام مُجدداً داخل الأسرة، وربما هذا يُقلل من الجانب المعنوي والحسي المطلوبان؛ لترسيخ روح انتماء الولد إلى أسرتهِ، فعدم التنبه لهذا الأمر من قبل الوالدين، مع الوقت لاستمرار الزجر والتوبيخ عند استحقاقهما!. دونَ أن يتخللهما نصحٌ وإرشاد، أو التوجيه بإمعان: (بين التحفظات الأسرية، وبين النظر إلى مدى الآثار المترتبة على "اللا أو النعم" داخل الأسرة، من كون الوالدين قدوة لأولادهم، بل إنَّ مصلحتهُما الذاتية، والدائمة، مُتمحضةً قطعاً تجاه أبناءهم، لأنَّ غيرهما مهما بلغَ منَ الخيرِ والمحبةِ والصلاحِ، لن يبلُغا درجتهما، خاصة بالحلم والأناةِ عليهم، وبالتالي فإنَّ أي فجوةٍ بهذا الأمر: تقصيراً أو إهمالاً، وبتكرار، قد يُفضي إلى أن يجدَ الولد صديقهُ أو الشارع! أهم من والديهَ وإخوانه؛ فينعكس بسلب شخصية انتماءه، أو نمو شخصيته وترددها بين (الضعف أو العنف) سلباً على أسرتهِ، ومُجتمعهِ، ووطنهِ!.
4- المواقف التي تُستعمل بها الحقوق، والتي تقتضي تقدير سلطة الذات (اللا أو النعم) أو عدم تقديرها، بالنظر لمآلاتها، وما يترتب عليها من المسؤولية الشرعية والأخلاقية والقانونية من استعمال الحق: تعسفاً أو تعدياً، لأنّ التعسف: استعمال الإنسان لحقهِ على وجهٍ غير مشروع أو كما عرفهُ بعض القانونيين بأنه: استعمال الشخص للسلطات التي يخولها له الحق، استعمالاً يضر بالغير: كإسقاط واجب: كهبة المال تحايلاً؛ لإسقاط الزكاة، أو إلحاق الضرر المحض بالغير: كوصية الضرار؛ إضراراً بالورثة، أو لتحقيق مصلحة قليلة أو نفع تافه أو عابث. ففي هذه المناقضات المقصودة إشارة واضحة إلى أنَّ التعسف كانَ نتيجة الباعث من استعمال الحق: (الهبة أو الوصية) .. وهو ما يستدعي إلى ضرورة احترام سلطة الذات بــ(اللا) وتقديرها ابتداءً؛ تفادياً لما تقدم!.. قال: العز بن عبد السلام: "كل تصرفٍ تقاعدَ عن تحصيلِ مقصوده، فهو باطل". ) قواعد الأحكام في مصالح الأنام،ج2، (143. أي متىَ كانَ التصرف: (القولي أو الفعلي) بـــ(اللا أو النعم) لا يتحصل منه المصلحة الشرعية، التي قصدها الشرع من ذلك التصرف، كانَ باطلاً، يستلزم المؤاخذة والمسؤولية: الشرعية والقانونية.. وسيأتي البحث بهذه النقطة مُوسعاً بالمقال القادم، إن شاء الله تعالى .. والله الموفق لا رب غيره..
المراجع:
الجوزية، ابن قيم، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين (ت:751هـ) أعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، دار الكتب العلمية، ييروت، ط1، 1991م.
الشاطبي، إبراهيم بن موسى اللخمي المالكي،(ت790ﻫ)، الموافقات في أصول الشريعة، دار المعرفة،بيروت،ط2،د.ت،ج4، 201.
(مقال: خضراوي، أسامة، مشكلة الثقافة..عند المفكر مالك بن نبي،(ت:1393هـ): على رابط: (https://www.aljazeera.net/blogs/2019 وبتصرف).
يحيى، عبد الودود، الوجيز في النظرية العامة للالتزامات، د.ط، دار النهضة العربية، القاهرة، 1994م، ص244.
أبو حجير، مجيد محمود، نظرية التعسف في استعمال الحق، ونظرية الظروف الطارئة، ص19 .
العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الجيل، بيروت، ط2،1980م، ج2/ص143 .
د. ضرار مفضي بركات
محاضر غير متفرغ/ ج. جدارا / عضو الاتحاد الأكاديميين، والعلماء العرب
وزارة التربية والتعليم/ المملكة الأردنية الهاشمية
Drarbrkat03@gmail.com