أثرت الأزمات الناتجة عن الطاقة في الأردن في سياساته واستراتيجياته في هذا القطاع. ولقد تبدلت خطط الأردن لتحقيق الأمن في الطاقة حسب الظروف، وقصة الأردن في هذا المجال يجب أن تكتب بالتفصيل، وأن توضع أمام القراء في الوطن العربي، لما فيها من تعقيدات وتشابكات مع كل من الدول العربية النفطية، ومع دول الجوار، وبسبب تداخل الطاقة مع الكهرباء والماء والغذاء والبيئة.
اعتمد الأردن حتى النصف الثاني من عقد الثمانينيات من القرن الماضي على خط "التابلاين" القادم من السعودية للتزود بالنفط. وقد كانت رسوم العبور في نهاية الستينيات من ذلك القرن تغطي كلفة ذلك النفط.
وقد أبقت المملكة العربية السعودية ذلك الخط مفتوحاً بعد عام 1948 عندما حولت ميناء التصدير من حيفا إلى صيدا في لبنان. لكن لما توقف الخط عن تزويد سورية ولبنان. وبيع رصيف التصدير والخط في هذين البلدين بدولار واحد، استمر النفط بالتدفق بطاقة بدأت بعشرين ألف برميل يومياً أو ما يساوي 4% تقريباً من طاقته القصوى.
وبعد عام 1973، وحرب أكتوبر/تشرين الأول التي وقعت فيه، ارتفعت أسعار النفط، فصار الأردن يتحمل فاتورة كبيرة بسببه. وفي عام 1983، وبناء على طلب شركة التابلاين، دخل الأردن والشركة في تفاوض أدى عام 1985 إلى اتفاق على أن يدفع الأردن دولاراً وربع الدولار رسوم نقل عن النفط الذي يشتريه بدون أن يأخذ رسوم مرور على الخط، لأنه لم يكن يزود حينها أحداً. ومن هنا بدأت فاتورة النفط تتصاعد.
بعد عام 1973، وحرب أكتوبر/تشرين الأول التي وقعت فيه، ارتفعت أسعار النفط، فصار الأردن يتحمل فاتورة كبيرة بسببه
وفي 1990- 1991، وبعد احتلال العراق للكويت، واحتجاجاً على موقف الأردن، طرد أكثر من ثلاثمائة ألف شخص إلى الأردن، وأوقف شحن النفط إليه إلا مقابل الدفع النقدي. وفي تلك الفترة كان الأردن قد عانى الأمرين من زيادة الديون، وهبوط سعر صرف الدينار حيال الدولار، ومن تضخم وبطالة. ولذلك كان قرار عدم بيع الأردن نفطاً إلّا على أساس النقد عند التسليم تحدياً كبيراً. وشكّل هذا أول هزة نفط عرفها الأردن.
ولكن العراق آنذاك كان مديناً للأردن، فدخل في ترتيب مع الأردن لتزويده بالنفط بالشاحنات، مما أربك السير على الطرق، وخلق أزمات مرور خانقة، خاصة أن العراق كان يستخدم ميناء العقبة لتصدير نفطه المنقول من جنوب العراق.
ومن الطريف أنني فاوضت المسؤولين في العراق عامي 1984، 1985 لبناء أنبوب نفط بطاقة مليون برميل يومياً، إلا أن الرئيس العراقي قرر عدم السير في هذا المشروع خشية أن تضربه إسرائيل، واستعاض عنه أولاً بأنبوبين (شرق/غرب) في المملكة العربية السعودية، ولاحقاً بأنبوبين عبر الموانئ التركية، علماً أن هذه الخطوط الأربعة قد أُغلقت وما زالت كذلك حتى الآن..
واستمر اعتماد الأردن على العراق حتى جاء الغزو الأميركي والتحالف ضد العراق عام (2003)، ووجد الأردن نفسه يعاني ثانية من نقص في تزويد الطاقة، واضطر الأردن بعد هذه الهزة التي أتته من العراق، أن يعتمد على الغاز المصري، خاصة في توليد الكهرباء.
وقد كانت كلفة الغاز معقولة ومنافسة. وحول الأردن معظم المحركات (Turbines) في محطات توليد الكهرباء إلى الغاز، أو إلى النظام المزدوج بين الزيت الثقيل والغاز.
لكن في لحظة ارتفاع أسعار النفط العالمية في الفترة من 2011-2014 توقف الغاز المصري، بعد اندلاع الربيع العربي فيها. واضطر الأردن إلى الاعتماد على السولار والزيت الثقيل، ما رفع كلفة إنتاج الكهرباء كثيراً، ولكن الحكومة لم تتمكن من رفع سعر الكهرباء، فخلقت فجوة مالية تحملتها الشركة الوطنية للكهرباء المملوكة بالكامل من قبل الخزينة الأردنية، وتراكمت عليها الديون حتى وصلت إلى أكثر من (7) مليارات دولار.
في لحظة ارتفاع أسعار النفط العالمية في الفترة من 2011-2014 توقف الغاز المصري، بعد اندلاع الربيع العربي فيها
ولذلك صار هَمُّ الأردن أن يبحث عن وسائل جديدة، لكي يواجه هذه الأزمات. ومن هنا سمح بإنتاج الكهرباء بالطاقة البديلة والنظيفة. وهما الشمس والرياح. وأنظمة الأشعة الشمسية والرياح في بعض مناطق الأردن تنتج كهرباء بفاعلية عالية، خاصة جنوب وشمال شرق الأردن.
وسمح لبعض الشركات أن تنتج، ولكن نظراً لأن هذه المصادر لم تكن قد تطورت وانتشرت، فقد كانت عالية الكلفة. وفي الوقت الذي وافقت فيه الحكومة على شراء الكهرباء بمقادير محددة وبأسعار مرتفعة بأثر رجعي، فإن الكثيرين يلومون الحكومة على توقيعها تلك الاتفاقات، خاصة أن سعر الكيلوواط/ ساعة قد انخفض من (130) فلساً إلى أقل من عشرة فلسات حالياً.
وهذا وضع الحكومات المتعاقبة في خانة المساءلة، فهل الحكومات مظلومة، أم أنها كانت قصيرة النظر؟ وبدأ الأردنيون في ضوء التجربتين الأميركية والكندية ينظرون إلى ما حباهم الله من مورد الصخر الزيتي الذي كان حوار بحث ونقاش منذ منتصف الثمانينيات. ولم تكن التكنولوجيا آنذاك قد تطورت بالقدر الكافي.
وقد طورت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية أسلوب (Retorting)، أو استخلاص الزيت الخام والصخور الزيتية (shale oil أو oil shale)، ولكن العملية كانت مكلفة، وبعدما طورت أميركا نظاماً خاصاً بتنجيم الصخور الزيتية، واستخلاص النفط منها بعد طبخه إلى درجات عالية، وقللت الكلفة إلى ما يقارب (75) دولاراً للبرميل من النفط الخفيف الخالي من الكبريت، كان سعر النفط العالمي يتراوح بين 93-107 دولارات للبرميل، ولكن لما عاد سعر النفط إلى الانخفاض قبل كورونا، وأثناءها توقف إنتاج الكثير من هذا النفط.
ولكن الأردن توصل إلى اتفاق لبناء محطة توليد كهرباء بطاقة تتجاوز (1000) ميغاواط، بالتعاون مع الصين شراكة وتمويلاً. وتعهد الأردن باستلام كمية الكهرباء المنتجة على أساس أن هذا المشروع سيستفيد من موارد الأردن، ويعزز من أمنه في الطاقة.
ولكن هبوط أسعار النفط جعل المشروع مكلفاً. وبسبب توفر الغاز، فقد تمكن الأردن من توسيع إنتاجه من الكهرباء من مصادر أرخص بكثير من الكهرباء التي يوفرها مشروع العطارات (الصخر الزيتي).
وفي هذا الصدد صدر خبر تحليلي في صحيفة "العربي الجديد" بتاريخ 5 يوليو/ 2023 يحلل هذه القضية ببعض التفصيل، وبحسب ما تناقلته الأخبار، فإن القضية بين الصين والأردن قائمة، وإن كان البعض يحمّلها مضامين سياسية أكثر مما تحتمل.
وما يضيف إلى حساسية الأمر على المستويين السياسي والاقتصادي هو أن الأردن يشتري حوالي (100-150) مليون قدم مكعب من الغاز الإسرائيلي من حقل الحوت (Leviathan Gas Field)، علماً أن الغاز ليس للحكومة الإسرائيلية، بل لشركة شيفرون الأميركية التي طورته. وهو يقع شرق البحر المتوسط، وبمسافة تبعد حوالي (130) كيلومتراً من شاطئ حيفا.
وبمقارنة التكاليف نجد أن كلفة الكهرباء المولدة من هذا الغاز أقل كلفة من الكهرباء المولدة من مشروع العطارات. ولكن لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية حكومة متطرفة، وترتكب مجازر بحق الفلسطينيين، فإنّ الأردنيين عامة لا يحبذون فكرة الاعتماد عليها، لأنها ليست أهلاً للثقة.
والأمر الحساس الثاني هو أن فاتورة النفط والكهرباء في الأردن مرتفعة. ويرى المواطنون أن ثمن الكهرباء والبنزين والسولار والكاز مرتفع جداً، وأن الحكومة تجبي ضرائب عليها تصل إلى 56%، ويشكو كثير من النواب الأردنيين من أن الحكومة غير شفافة في تسعيرها للمشتقات النفطية.
وهذه الحساسية من ارتفاع أسعار الطاقة تجعل الحكومة محتارة بين فكي هذه الكماشة، فهي تخسر كثيراً إن أبقت الأسعار، وتخشى كثيراً إن رفعتها.
وأخيراً وليس آخراً، فإن 20% من كلفة إيصال المياه إلى المنازل هي كهرباء. والكهرباء تقول إن كلفة دعم قطاع المياه الناتجة عن أسعار الكهرباء المباعة لذلك القطاع تصل إلى 300 مليون دينار سنوياً. ولو رفعت الكهرباء سعرها على قطاع المياه فإن قطاع المياه سيرفع الأسعار على المستهلكين لها.
ومن ناحية أخرى، يشكو قطاع المياه من أن سعر الماء المباع للمزارعين، خاصة في منطقة وادي الأردن، منخفض جداً، ولا يكاد يغطي 7% من كلفة المياه التي تستخدمها الزراعة هناك.
إذاً، صار مثلث الطاقة والمياه والغذاء مترابطاً من حيث الأمر الواقع، ولكنه مخلخل في ترابطه، ومعقد في تسعيره، علماً أن الأردن هو من أفقر دول العالم بالماء، ومزيد من الماء يتطلب مزيداً من الطاقة للتحلية والضخ والتنقية.
هذا الموضوع كان مثار البحث في محاضرة مهمة ألقاها الأمير الحسن بن طلال. وسوف تكون تلك المحاضرة موضوع البحث للمقال القادم، لأنها تنظر إلى رزمة المياه والطاقة والغذاء والبيئة على مستوى الجرف القاري الممتد من مرتفعات الجولان حتى شرق أفريقيا، بما في ذلك دول المشرق العربي والخليج وأفريقيا، ويتساءل الأمير: هل سنترك العمود الفقري للمنطقة ينهار، وما يعنيه ذلك من انفراط لمنظومة المياه والطاقة والبيئة والغذاء؟
الحل إقليمي أكثر منه قُطري.
العربي الجديد