لم يكن هناك ما يدعو لأخذ الخوف على محمل الجد هذه المرة … مضوا سريعا عبر ممرات المستشفى يدفعنها الممرضات على كرسي متحرك .. وكفه تَشُدُّ على كفها وهي تصرخ وتبتسم … إذ ان الوعد فتاة قادمة تستحق عناء اللحظات، داعبها باسمها المستعار طوال التسعة اشهر كان يناديها اسحب واربح …
الآن سنربح……..طفلة اولى تحمل ملامح الحب الاول والاخير … اضيئت الانوار واغلقت الابواب وانفتح باب في الخيال لديه ..
عن المولودة واطلالتها في الملابس البيضاء التي اختاروها سوياً … عن الضحكات الدافئة .. والخطوات الاولى في فناء البيت .. عن غيرة المحبوبة وهي تُنازع في مُلكها من محبوبة جديدة …
إلا ان ملامح من توقع ان ياتوه بالبُشرى خذلته …….
احس ان في الامر فَقد … لكن بمن تربص ..!
اتاه عزاء في محل التهنئة .. لكن على من ..!
هنا … حيث لا تُجدي الاجابة ..
إذ ان المصاب جلل في الحالتين …
أعلن بكاء الصغيرة عن الوجود وعن الفناء .. عن القدوم والرحيل في آن واحد..
لُفافتين …….
اولى تضج بالحياة … واخرى تحتضن الموت ..
كانت وافية كما سماها .. اجزَلت بالعطاء حتى آخر عهدها
لم تُطق الرحيل إلا بذكرى .. قُبلة اخيرة وروح مكان الروح
ثم طارت بعيدا تطايب قلبه بين العالمين …
احتضن ما تركته قبل الرحيل وحدَّث نفسه :
ايا حزني الذي سلوايَ منه.
اوراق تساقطت في غير موعدها .. واسطر ابتلعها الزمان قبل ان تُكتب .. كان الحزن غريبا على غير عادته ..
والبكاء بلا دلالة … شيء غامض يسجنك بين اهلا والوداع .
وداعا لمن قايَضَت الحياة بالحياة .. اخذت كل شيء وتركت اسمها لحياة جديدة ..
وكأنها تقول :
افرح …… الآن يمكنك ان تحبني مرتين .
انتهت القصة ….. موضوعنا اليوم عن …….. الوداع .
كل هذه المحطات والمطارات والموانئ ….
وكل هذه اللحظات المحبوسة بين قوسين البداية والختام… وجميع الأزهار التي تُعلن الذبول … ومجمل ما وثقنا من لحظات غروب الشمس ….
لم ولن تُفلح في أن تعلم الإنسان كيفية اعتياد الفراق أو تجنبه …
تاريخك الطويل مع الوداع وذاكرتك المُكتظة باللحظات الاخيرة …..لن تُسعفك .. ولن تمنحك مخرجا من آمنا من هذه اللحظة ……….. والفراق اعني
لأننا وبرصيدنا الوافر من التجارب ….
نستثني …. نتوسم الخلود في ما اردناه ونختلق الف مبرر لنقنع انفسنا بالتنامي والامتداد …
في كل مرة نعيش اللحظة بِكُلِّنا …….
ننسى ونتناسى ان الأشياء محكومة بتاريخ صلاحية وانتهاء ..
نكتشف في لحظة صفوٍ نادرة أن كل شيء عابر …
وان عبارة سحابة صيف التي نواسي انفسنا بها عند الأزمات …. هي نحن …… إذ مصيرنا المرور بكل أشكاله …..
اعرف …… فكرت كثيرا هل تعتزل وتَقِ نفسك هَول
اللحظة وألمها ..؟
أم تصعد من النشوة أعلى قمة ولا تبالي
حتى وإن كان مصيرك السقوط منها في ما بعد …
هل أعطي كُلي أم اقتصد ..؟
هل نُشيد بالأحلام قصوراً وقلاع ام نبنى من المنطق حصوناً وحواجز تحول بيننا وبين كل ما يمكن ان يتوغل فينا ..؟
الصراحة لا املك إجابة …
ولكنني كلما ارتعبت من الاحتمالات أقول :
خندقي موجود …. والاحتماء اسهل الخيارات …
لكنني كما اود أن لا تقتلعني العاصفة …
لا أريد أن يفوتني المطر … وكما اهاب فتك الفطر السام ..
اتوق لطعم توت وادي مدينتي .. وبقدر خوفي من ان اتوه .. اشتاق لكي اصل .. خندقي موجود .. إلا ان الشوارع مُغرية .
أحيانا نفارق اشياء قبل أن نكون معها .. نخسرها دون ان نمتلكها من الأساس .. لأننا نوقِن ان الفراق محتوم وان القصة كلها تحت بند المستحيل … فنختصر الطريق على
انفسنا ونقع على الفراق قبل أن يقع علينا …
كتب بعد ان ودَّعها في سِرِّهِ …
حبيبك انا إلا انكِ لم ترافقيني يوماً في رحلة سفر طويلة .
اخَذتُ عقلك .. لكن قهوتك بردت قبل ان تحضرين ..
وشمٌ على قلبك .. لكننا لم نبتسم معاً لعدسة كاميرا واحدة ….
يحدث ان تسقط كورقة في الخريف .. وفيك ما يجعلك جذراً لا يُخلع …
فحبيبك انا : في المستقبل الذي لن ياتي .. والفرص التي لم تُسنح .
نكتفي بالمرور السريع كأغراب الآن .. نفترق هنا ..
ونبقى معاً في الاحتمال .
ومن جانب آخر نواجه ما يمكن أن يسمى بالفراق الصامت تلك العلاقات التي تموت دون عتبٍ على طرف بلا خطأ او تقصير .. كل ما في الأمر أن المساعي اختلفت يجمعنا الهم المشترك او الحُلم الجماعي او السياق والمرحلة …
لكن نجد أنفسنا أمام الغياب القهري ما أن تتعدد السبل وتبعد المسافات وتاخذ الدنيا كلاً في طريق …
لهذا تشعر بانك غريب …. ويشعرون
بعيدا عما تركت … وبعيدا عما أممت …
لم تعد ولم تصل لكن هكذا هي الطرق دوما موحشة ….
الاكيد …..
أننا لا نستطيع إيقاف الزمن والإستبقاء لحظة من لحظاته .. فطبع الأيام المرور .. وما بوسعك أن تُقيد نفسك أو تحجر عليها فيما تود .. كان قدَرٌ علينا الإرتحال إذ لا بد في الحياة من جللٍ نبكي عليه …
فلا ملامة في هذا الغياب .. من يمنع الفرخ السماء إذ اشتد جناحه ..؟وهي الأوراق .. تحكمها المواسم .
الآن ….. وفي نهاية كلماتي اشعر اني اخطأت التوصيف ..
هذه العلاقات لا تموت …
لأنها تاريخك …. وجزء منك الأمر وما فيه انه صمت طويل ممتد … ومَعَزَّة تجاوزت سؤال التشكيك .
هذا تحديدا ليس فراقاً .. الفكرة انه مع تقدَّم السنوات ..
يمل الواحد منا اعادة تقديم نفسه للآخرين .. و يتكاسل عن طول مشوار تعريف ذاته من جديد …
من هو .. وماذا يحب .. وماذا يكره .. ويستثقل بروتوكولات البداية الجامدة وانتظار ما ستفضي اليه هذه العلاقة ..
ولهذا الشيء تحديدا يكتسب القديم جماله وتزداد قيمته يطول الغياب وتظل مهاتفة الصديق القديم منعشة للروح ونافذة لمكامن الاحتياج …….
ويتوالى الانقطاع ويبقى الترائي مُوسِما لا يُخلف وعده في الاخضرار …. ويَجُبُّ اللقاء ما قبله ..
هم جودة المعدن وبراعة التوقيت .. الدهشة الاولى من حلاوة الاقدار .. وحداقة الصدف .
محبة خالصة للقديم الخالد المستمر .. ما لا تطوله يد الزمان ولا تغيره الحوادث …..
المُعفى من عبء البداية من جديد .. المُتأهب دوماً للاستكمال من حيث انقطع ..
ثمة وداعٌ جماعي يعيشه هو كل جيل على حدة …
طرفاه أنتم .. وما الِفتُموه من الأشياء ….
هذا الوداع في اعتقادي … هو اول مراحل استقبال الشيخوخة .. لحظه تلاشي المحيط من حولك وموت ايقونات الذاكرة …
يوما بعد يوم تتوقف برامجك المفضلة عن البث ..
وتنقطع مسلسلاتك المحببة عن العرض .. يتوفى داعيتك المؤثر القديم .. وترحل حِقبة مغنيك وممثليك ممن إرتبطت بهم بعمق .. ويتفرق الأصدقاء في أرض الله الواسعة بحثا عن الرزق والبقاء ..
في وسط هذا .. تجد نفسك شِبه منقطع عن الآن ..
ومتصل بصناديق الماضي بقوة .. غريبٌ عن الحاضر نوعا ما وتتعامل مع الجدد من أشخاص اليوميات والأيقونات الظاهرة بترفع عفوي غير مقصود ….
ولكنك لست منهم … وليسوا منك .
هكذا تُجهزك الاقدار ….. لأنتَ العجوز …
إلى أن تأتي اللحظة التي يختفى فيها كل ما تعرف ….
وينقرض كل من تعرف …
وددتُ فقط أن الفت نظرك انه ربما الآن يُصنع داخلك ذلك المسن المتذمر الساخط والمنتقد لكل الأشياء من حولك .
قبل الختام … أود أن لا نُعادي الفراق ونلعن لحظاته لهذا الحد …. أحيانا يكون أفضل ما قد يحدث ….
يهدر الإنسان كثيرا من نفسه وهو يحاول إستبقاء ما آذن بالرحيل … تلك الاستماتة في مَدِّ آجال لحظات السعادة والاستمتاع … او النفخ عبثا في جثامين العلاقات الهامدة أو محاولات شد قميص من استبدل حِملَ المواثيق بحقيبة السفر … وقرر نهاية فُرصتِك في حياتك .
نحتاج غراباً ….. يعلمنا كيف نواري سوءة ما انقضى .. أو خِضرا يعلمنا الصبر على حكمة الاقدار .. معلمٌ بسيط يغزو جهل الالحاح بنور التسليم .. ويعلمنا باللين او بالقسوة انه عندما يبني أحدهم جدارا نلتزم بالوقوف خلفه …
كل شيء يعيش بين الميلاد والفناء … هي الأعمار كما تبدأ تنتهي … فتعلم الوداع بلا عتب … ومهما زَينت الاقفاص تَقَبَّل فكرة وجود الجناح في العصفور .. كل الناس تناديني مواسم الحصاد ..
أقول …. فلتنادي أنت بمواسم التساقط لا الكسب ..
يتحدثون عن اهداف جديده واوسمة مختلفة ومنصات تتويج أعلى … ولكن هنا ساحدثك عن الاقل لا الاكثر ..
فقط تخلص وكُن اخف …
تنازل عما لا يلزم … فَنِّدْ الاهداف ثم احتفظ بالأصيل وتجاوز مالُقِّنتَ له قلِّل الشكوك بِطَرق بابِها ..
عَقِّم جميع الذكريات المُمرضة .. وتعلم من الأشجار فكرة أن تُسقِط كل الأوراق الجافة .. قبل أن تحلم بالإخضرار .
ختاماً …….
حتمية الفراق تجعل من البديهي حتمية شعور الإنسان بالإشتياق …
لذلك ازعم مع النهايات التي لا تنتهي أن اكثر درس لقنتنا له الحياة هو أن ………..نشتاق
عن ذلك الفراق القسري ولذلك الشوق الحميد الذي لا يُتلَفُ حاضرا ولا يحجب ومستقبلا ..
أقول ……..
مهما ابتعدت … وأخذتك المسافات بعيدة عما تَوَد ..
حافظ على خيوط رفيعة ممتدة لا تنقطع على طرفيها ..
قلب .. وقلب .
أكثر ما فعلناه في حياتنا هو أن نشتاق ….
لمكان أول … او لأُناسٍ أولى ان نظل بجانبهم ….
ولكن برغم قساوة الاشتياق يبقى خيارا أفضل من النسيان أو التجافي …
رِهاني على تلك الخيوط كبير …
سنصنع منها وشاحاً يُدَفئ هذه الوِحشة يوما ما ..
وسَنَفتِل منها حبلا يُعدَمُ فيها الاشتياق شَنقاً حتى الموت ……
وإن طال الزمن وحلَّى الشَّيب .. وذهب البصر ..
ستقودني هي إلى حيث انطَلَقت ُبداية ….
عن نفسي سأظل اشتاق حتى يعرض التلاقي نفسه كَحَل
أو ينطفي النسيان كخيارٍ ُمقابل .