ليس سهلاً أن تقنع مفكراً محترفاً في قراءة الآخر ومزاجه العام وأهوائه الماثلة والمؤجلة دون امتشاق حجتك الدامغة، وقد يكون متعذراً أن تأخذ صبري ربيحات إلى مساحات الإقناع السريع المباشر؛ لتقرير حالة أو تبرير موقف أو تفسير واقع أخذ من وقته وفكره وتجاربه الكثير من التأمل ومحاولات الفهم الإيجابي سيَّما من مفكر غادر مساحات المجاملة الفكرية مبكراً، وأوجد لنفسه مدرسة استثنائية في استيعاب الآخر دون أن يكون ذلك على حساب القناعات والموقف السياسي أحياناً بل ربما أضحت الحاجة مُلحَّة لسماع وجهة نظره في تفسير أسباب ارتباك منظومة النخب وانزلاقها في أتون النفعية والنشوز.

" اللامعيارية" في انتقاء النخب وفهمها؛ مصطلح كان أكثر من كافٍ للولوج في فكر هذا الرجل، ومحاولة قراءة ثنائية العناد الإيجابي والانفتاح المنضبط في تشخيص الربيحات للمشهد العام، وتحديات الجغرافيا والديمغرافيا في اختيار النُّخب الحاكمة، وضرورات فهم النَّسق الاجتماعي بما في ذلك رائحة المكان؛ لتفسير حالة الردّة النخبوية وتشققاتها، والانفلات القيمي وأثمانه الطارئه والقادمة، والخلط الملتبس بين الخاص والعام الذي أوصل المجتمع إلى مساحات الغربة وانعدام الثقة بكل النُّخب الحاكمة بصورة أربكت المشهد العام برمته.

ميزة الربيحات أنه ينحاز كثيراً للمكان والمشاعر العتيقة رغم ليبراليته السياسية وانعتاقه من كل أسوار المحافظة الفكرية الهادفة إلى إبقاء الحال على ما هو عليه، بل هو ثائر على كل مظاهر النمطية السلبية، ومتحرر من كل أساليب التأثر والتأثير دون نقاش أو مشاركة، وما بين عيمة وجنوب كاليفورنيا نحت الرجل لنفسه مساراً يُحترم، وفكراً يستحق التوقف والإشادة اتفقت معه ام لا، ورغم فكره المنفتح المحلّق في فضاء الحداثة الفكرية المرتبطة بالحريات إلا أنه لم يغادر "المظلومية الاجتماعية" للأطراف، وثقافة الدولة الريعية لتنمية المجتمع.

صبري الربيحات العتيق الأنيق بمحياه، والواثق المستبد بقناعاته السياسية والاجتماعية، والرجل الرزين الدبلوماسي في نقد السلطة ورجال الحكم؛ له رؤية تخصّه كعالم اجتماع تتمثل في ضرورة بسط ثقافة الرضا بين الجمهور، ومعالجة عثرات الهويات الفرعية والاهتزاز القيمي قبل الولوج في الإصلاح السياسي والاقتصادي والإداري، وأن التنشئة السياسية، وثقافة التربية المدنية، وقبول الآخر، وتعزيز الحوار الديمقراطي تشكل منطلقاً أساس للمشاركة السياسية والحياة الحزبية.

كثيراً ما ينتقل الربيحات بين التثوير الديمقراطي والتنوير الحداثي، ويشتبك بحزم مع المحافظين -وأنا منهم- في قبول فكرة الدفاع عن الحكومات ورجال الحكم، ولا يقتنع بالتفسير القائل بأن الوطن مستهدف، وأن الدفاع عن الدولة بقضها وقضيضها فرض عين في هذا الظرف الإقليمي والدولي الصعب؛ بل يرى أن الإصلاح يبدأ بالنقد وإعلاء الصوت والمكاشفة دون تردد، خلاف في الرأي، وهذا لا يُفسد في الود قضية.

صبري الربيحات الجنوبي الصادق العنيد، والأردني الحرّ الرشيد، والمفكر الذي اتخذ الصراحة نهجاً والإيمان بقدسية هذا التراب منهجاً له في عيشنا وشأننا العام قولاً يستحق الإصغاء، وعلى هذه الأرض دائماً ما يستحق الحياة.