الحصاد المنسي للسياسات الاقتصادية
د. جواد العناني
10-07-2023 05:20 PM
ينسى الناس كثيرًا أن السياسات أو القرارات التي يأخذونها تأتي بنتائج لم يحسبوا حساباتها، ولم يقصدوا إحداثها، وهذا له اصطلاح باللغة الإنجليزية هو "Unintended Consequences" أو النتائج غير المقصودة، وبعضها قد يكون إيجابيًا أحيانًا، وبعض هذه النتائج قد يفاجئ صناع السياسة ومتخذي القرارات بآثاره السلبية. ومن ظلم النتائج السالبة غير المقصودة أن متخذ القرار أو صانعه يفوز بالمديح والثناء، بينما الذي وقع الأثر السيء في قطاعه أو ضمن اختصاصه يلام على سلبيات القرار بينما هو برئ من ذلك القرار أو تلك السياسة.
وقد تذكرت أن والدي رحمه الله - أحمد العناني-، هو من ادخل كلمة الحصاد على الإعلام الأردني حين الف كتيبًا في أوائل خمسينيات القرن الماضي موسومًا بـ"حصاد الفجر"، ثم استخدمه في أحاديثه الإذاعية والمسلسلات التي عكف على كتابتها. وتذكرت كلمة الحصاد، فقلت نسمي النتائج غير المقصودة وذات الأثر السالب "بالحصاد المنسي" للسياسات.
ولقد صرحتُ لإحدى المواقع عن آملي وتفاؤلي بأن الأردن بدأ يخرج من أزمته الاقتصادية، وأن بإمكانه أن يفعِّل جهوده ليحقق نموًا يتراوح بين (3.5-4.0)% العام القادم إن توجهت سياسات الحكومة نحو الأفضل.
ومن الأمثلة على النتائج غير المقصودة في الأردن هي تحديد الحد الأدنى للأجور عند 260 دينارًا شهريًا، مفترضين أن هذا الحد ينطبق على كل عامل في سن العمل، ويقدم جهدًا لصاحب العمل لا يقل عن ثماني ساعات في اليوم ولا يزيد، وأن العمل الذي يقوم به لا يتطلب مهارات خاصة، أي أنه عمل ماهر بالحد الأدنى. وضبط الحد الأدنى الذي لا ترضى عنه جمهرة العمال هو الذي يساهم في عدم ارتفاع الأسعار؛ تجنبًا لما يسميه الاقتصاديون بالحلقة الشيطانية التي يؤدي فيها رفع الأسعار إلى زيادة الأجور، ومن ثم زيادة الأسعار، ويتبعها زيادة في الأجور، وهلم جرا.
وإذا ربطنا هذا بالسياسة النقدية المتشددة من حيث أسعار الخصم وإعادة الخصم والاقتراض، فإن السياسة النقدية هذه تبدو منسجمة مع السياسة في سوق العمل، ولكن ذلك على فوائده الظاهرة قد ساهم في توسيع قاعدة العمال في الاقتصاد غير الرسمي، وهي النتائج غير مقصودة.
ولو ادخلنا إلى التحليل ما تفعله سياسة تحصيل الضرائب والتوسع في الرسوم، فإننا سنرى أن الفضل ينسب إلى القائمين على السياسة المالية الحائزين على رضا المؤسسات المالية الدولية (البنك وصندوق النقد الدوليين). وبالطبع فإن إحدى النتائج الثانوية هي تقليل قدرة الأسر على الأنفاق، ما يساهم في التخفيف من حدة الغلاء.
هذه السياسات الموجهة إلى ضبط التضخم هي المسؤولة عن تراجع نسبة النمو في الأردن إلى معدلات تبدو معقولة (2.8 بالمئة حتى منتصف 2023)، ولكنها هي المسؤولة عن توسيع قاعدة الفقر، وليس البطالة، وهنالك من يقول إن نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل لا تزيد عن (14%) من مجموع النساء في سن العمل. أي أن نسبة النساء العاملات من الأردنيات إلى مجموع العمال الأردنيين من ذكور وإناث لا تتجاوز (7%)، أي أن من بين كل مائة عامل في الأردن لا يوجد الا سبعة منهم من الإناث، وهذا رقم غير مقبول ولا معقول. فإذا كان غالبية المعلمين في القطاعين العام والخاص من النساء، وتتجاوز النسبة 70 بالمئة في القطاع الخاص، فما بالك بالمهندسات والممرضات والطبيبات والصيدلانيات وطبيبات الأسنان والمختصات بالاتصال الإلكتروني والبرمجيات، والعمل الاجتماعي، والمزارعات، والعاملات من بيوتهن، والبائعات في المحلات التجارية فأي أرقام هذه نحسبها عندما نتحدث عن البطالة.
والعمالة بين الشباب تصل إلى (27) ألفًا في محطات البنزين، وأكثر من (30) ألفًا في قطاع المطاعم والفندقة، وهنالك حوالي (22) ألفًا في قطاع الدليفري خاصة للطعام، والآلاف من الأطفال في قطاعات الميكانيك والخردة والزراعة والمنازل وغيرها، وهذا يدل على أن الأردنيين بدأوا يخرجون من ثقافة العيب، ولم يعد الحديث عنها يعكس الواقع. ولكن النتيجة أن هروب الناس من الضرائب والرسوم المالية ومن المحددات العمرية في سوق العمل، ومن الاقتراض من البنوك عندما يجدون الفوائد مرتفعة، قد جعلت العمال من كلا الجنسين ومن كل الأعمار يبحثون عن الملجأ الماثل في الاقتصاد غير الرسمي سواءً كان مشروعًا (أي يمكن ترخيصه)، أو غير مشروع (مثل التهريب وتجارة الممنوعات).
وبالطبع هذا وسَّع قاعدة الفقر في الأردن، وعكس نفسه على أهداف الحكومة في القطاعين المالي والنقدي. وقد علمنا من نقابة أصحاب محطات البنزين أن مبيعاتهم قد تراجعت بمقدار كبير من البنزين (ملايين الليترات)، وسوف نرى تراجعًا في عائدات الحكومة من مشتقات النفط الأخرى. وقريبًا من السجائر بأصنافها ومن الكحول وأصنافها وهي بضائع سهل الهروب إلى التهريب فيها. وسنرى نفس الأمر يحدث في تجارة الملابس التي يشكو أصحاب المحلات من شرائها عبر الانترنت من قبل الزبائن، ومن الأدوية، وكثير من المواد.
كل هذا سيحصل، وستجد الحكومة نفسها تضع عراقيل وقيودًا إضافية في المستقبل على هذه الأمور لتعزيز دخلها، ما سيكون سببًا في زيادة الاقبال من الناس في الاقتصاد الأسود لتهريبها وتسريبها بعيدًا عن نظر الحكومة.
النتائج غير المقصودة تزداد مساحة، ويزداد معها مساحة الفقر والتهريب والجريمة، والبحث عن حلول لتجنب الكلف الحكومية.
السياسات المتبعة حاليًا قد تجعل العاملين في القطاعين المالي والنقدي يَبدون أبطالًا محققين، ولكن النتائج السلبية الكبيرة غير المقصودة ستكبد كلا من القطاعين المالي والنقدي نفقات أكبر وأكثر إيلامًا. آن الأوان أن نرفع من مستوى تفكيرنا التبسيطي، وأن ندرك كم هو عالم الاقتصاد معقد، ويحتاج إلى سياسات وقرارات أكثر عمقًا، وأكثر اشتباكًا مع العلوم الأخرى.