السلع حصن الأدوميين المنيع
عبدالرحيم العرجان
10-07-2023 12:48 PM
حصن يستطيع رجل واحد أن يمنع جيش من اقتحامه، يعلوه أشهر المسلاّت البابلية خارج بلاد الرافدين ويعدْ الأهم بعد مسلة حمو رابي، يطلق الأهالي على الدرب مسار ولي العهد الأمين إحتفاءً بزيارته ومسيره هناك.
عند الغروب تجد للطفيلة سحر خاص حين يتداخل حمرة الشفق مع وردية جبال أدوم أرض المملكة التي سميت بلون المكان والأفق البعيد يأخذك لنهايات وادي عربه عبر أرض أجدادنا ننتمي إليهم بالفكر والدم والمعرفة وقد أورثونا الأصالة والعزيمة، من قرية آثر فيها الأحفاد استحداث دور أجدادهم وأحيائها لتكون لهم بيوت استضافة وإقامه لعشاق الخلوة بعيدا عن ضوضاء المدينة، ليكون فيها مبيتنا مع ضيوف عيد الأضحى المبارك من أصدقاء المسير والترحال.
عقود وقناطر حجرية حملت سقوف دعمت بأخشاب اللزاب العتيق وسلاسل قصب وجدران كان مقياس عرضها ذراع ، بنيت من حجر وطين مخلوط بتبن لا تحتاج لوسائل تبريد بالصيف وقليل من التدفئة شتاء، والسهرة هناك حديث آخر تتابع فيها أطباق الفواكه حديثة القطاف من أشجار بساتين القرية العتيقة من تين ومشمش وتوت، المعروفة بلذة ثمارها ووفرته، فقد كانت يوما تدفع 500 آقجه ضريبه على وفرة محاصيلها لصالح أمير لواء الكرك والشوبك العثماني.
وكما للغروب بهجته لك أن تسمع زقزقة العصافير عند أول الفجر إيذانا بيوم جديد تتجمع فيه حول أحواض الماء الحجرية التي يملئها القائمين على مركز الزوار تاركين لها الحبوب وبقايا الطعام . تشاركنا وقت الإفطار وأسفل منا الجبل _ مقصدنا
" قلعة السلع" التي أشاد وأنشد بجمالها مجير الدين محمد بن داود التركماني فقال:
دعت قلعة السّلع من قد مضى بلطف إلى حبها القاتل
وغرتهم حين أبدت لهم محيا كبدر الدجى كامل
ولما استجابوا لها أعرضت دلالاً وقالت إلى قابل
تفانى الرجالُ على حبها وما يحصلون على طائل
وبعد أن تناولنا قدحا من الشاي فوق هذا المشهد سلكنا طريقنا برفقة صديق من القريه على خطى درب الذي سار عليه ولي عهدنا الأمين سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظه الله ورعاه عندما زار القرية وقلعة السلع في العام 2018م ، مشينا بين كروم العنب وبساتين الرمان والتين والزيتون وقد ذكر فضلها بكتاب الله الكريم وما شق بينها من قنوات رممت لدور الري نزولا من ارتفاع 1089 مترا حتى قاعدة الجبل 847 مترا قرب البئر العتيق الذي ما زال يستخدم لسقاية الماشية بعد ما يزيد عن ألفي عام على إنشائه.
وبعد الاستراحة أخذنا طريقا اختلفت فيه التضاريس بين شقوق صخور رمليه شقتها معاول وهذبت أدراجها أزاميل حضارة تعود بإنشائها بين 1200 و 333 ق.م حسب تنقيبات جامعة مؤته حيث أنشاء فيها الملك "امصيا" حصنه في عام 838 ق.م حسب التقدير التاريخي، ومن قاعدة الجبل أشار إلينا رفيقنا إلى مسلة تخليد الملك البابلي "نبونيد" المنقب عنها بواجهة الطود فوق مدخله الوحيد على ارتفاع 35 متر بمساحة ستة أمتار مربعه ويظهر عبر هذه المسافة تمثال الملك وبيده صولاجان وقد اعتلاه آلهة السماء سن وشمش وعشتار بنقش نافر، وهذا تأكيد آخر على مدى أهمية الموقع ونخبويته، وأول من أشار إليها وذكرها بدراساته العلمية ابن الطفيلة د.حمد القطامين التي تعتبر الأهم والأضخم بعد مسلة الملك حمو رابي والأولى خارج بلاد الرافدين وتتضمن نقوش وكتابات مسمارية ولا يوجد لها نسخة مماثلة إلا بالمتحف البريطاني العريق.
أخذنا الطريق الوحيد لقمة الجبل عبر سلسلة من الأدراج المرممة المتواصلة بتعرجها بلا مسافات بفارق ارتفاع 120 متر عن القاعدة المشابهة بطرازها وجيلوجيتها لدرب المذبح والدير وأم البياره في مدينة البتراء، وصولا لقمة شبه مستويه إلا من قباب نُقب فيها جرون ومحاريب للعبادة وشق بينها قنوات مائيه تصب في آبار يتجاوز عددها الثلاثمائة، وبرك طُليت بالملاط الأبيض الجيري الصلب كي لا يتسرب بين الشقوق استخدمت للري والشرب والوضوء، ما زال بعضها يجمع الماء ليومنا هذا وكثير من من العمارة دون أي إضافات عليها أو انتهاكات لتبقى أدوميمه خالصة المعالم.
روعة المكان وأمانه تأخذك لاستكشاف ما فيه وصعود أدراج عديده تنتهي بمصاطب ومساحات شاسعه يشدك سلام المكان للجلوس فيه والتأمل بالمكان وسحر الطبيعة، إلا أن أغربها ذلك الدرج على صخره وحيده تعتليها بإحدى عشرة درجه قد تكون للخطابة بمن كان يتجمع بالمساحة حولها، ولشرق الجبل بمقطع منفرد آثار بناء بحجاره مشذبه وكهوف وآبار وقنوات تصب بأحواض تطل للجنوب على سيل جميله، مكان يثير الدهشة وكيف اختاره أجدادنا بهذا التحصين الفريد وسط جبال وطرق وعره قرب عاصمتهم بصيره العريقة المعروفة بتحصينها المنيع.
وبعد جولة استكشاف نزلنا لقاعدة الجبل حيث طلبنا أن تؤمّن سيارة للعودة لمركز الزوار بعد أن أتممنا مسارنا البالغ ثمانية كيلو مترات متوسط الصعوبة، وقد أورد الحموي بمعجم البلدان أن معنى سَلع هو أن يصعد الإنسان في الشعاب بين جبلين، ومن معانيها الأخرى الشق بالجبلين أو شجر مر ..، أما بالآرامية فتعني الصخرة وأيضا هي من أسماء مدينة البتراء، وكم نأمل أن يستطيع أبناء القرية الطموحين استكمال مشاريعهم بترميم بيوت آبائهم وتشغيلهم لتكون مقصدا سياحيا والترويج إليها مثل جارتها ضانا..