إضاءة المسار .. تصوّر مستقبل رعاية مرضى السرطان
د. عاصم منصور
09-07-2023 08:37 PM
في النسيج المعقد لوجود الإنسان، قليلة هي الخيوط التي تتشابك وتتناغم بنفس القدر من الغموض كمرض السّرطان. وعلى مرّ التاريخ، واجه البشر هذا الخصم القوي، سعيًا لفكّ لغزه وللفوز بالشعور بالطمأنينة في الانتصار عليه. واليوم؛ وبفضل التكنولوجيا المتطورة وروح التحقيق العلمي الراسخة، نقف على حافة عصر رائع في رعاية مرضى السرطان. دعونا نسير في رحلة إلى المستقبل، تمامًا كما فعل الكاتب والطبيب الأمريكي سيدهارتا موخيرجي ، في كتابه "إمبراطور كل الأمراض" والذي أخذنا من خلاله في رحلة ممتعة عبر العصور لسبر غور تاريخ مرض السرطان، لكن لرحلتنا هذه ستكون في مستقبل هذا المرض حيث نتصور مستقبلًا نستطيع فيه أن نهزم السرطان من خلال تدبره وفهمه من جميع جوانبه!
الثورة الجينوميّة :
سوف تلعب الثورة الجينوميّة دوراً حاسماً في إعادة تعريف رعاية مرضى السرطان، فالسّرطان مرض ينبع من الجينوم، مدفوعًا بآليات جزيئية معقدة، وبالتالي فإنّ فهمنا للأسس الوراثية للسرطان يتوسع بسرعة، بفضل التقنيات المبتكرة مثل تسلسل الخلايا الفردية، والفحوصات الحيوية السائلة وخوارزميات الحساب المتقدمة، مُتسلّحين بهذه المعرفة، فإنّ أطباء الأورام سيتجولون في الجغرافية المعقدة للسرطان بدقة لم يسبق لها مثيل، حيث سيتمكنون من تصميم العلاجات وفقاً للتكوين الفريد للجينات الخاصة بكل مريض.
الطب الدقيق:
تقترب الحقبة الزمنية لعلاج السّرطان بطريقة "حجم واحد يناسب الجميع" من نهايتها! ففي المستقبل القريب جداً| سوف يكون الطب المبني على الدقة هو السائد، وسيتم استبدال أيام إعطاء العلاج الكيميائي ذو الطيف الواسع، مع آثاره الجانبية المرهقة، بعلاجات مستهدفة تستهدف جوانب هشاشة السرطان، من علاجات المناعة التي تستغل قوة جهاز المناعة الطبيعي للجسم إلى علاجات الجينات التي تصحّح الشوائب الجينيّة، حيث يتم تصميم نظام علاج شخصي لكل مريض.
الفحوصات الحيويّة السائلة
وفي مجال الكشف المبكر عن السّرطان سوف تشكل الفحوصات الحيوية السائلة أحد أهم الأدوات في هذا المجال حيث سنتمكن من تشخيص السّرطان قبل تشكّل الورم من خلال تحليل شظايا الحمض النووي الورمي المتداول في الدورة الدموية، وبالتالي التعرّف المبكر عليه، حتى قبل ظهور الأعراض السريرية. سوف تؤدي هذه المنهجية الثورية الى تحسين معدلات البقاء وأيضًا الى تحويل رعاية مرضى السرطان إلى مسعى استباقي، حيث يتم اعتراض المرض والتصدي له في مراحله الأولى.
الذّكاء الاصطناعي والبيانات الضّخمة
سوف تحدث تطبيقات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة ثورة في رعاية مرضى السّرطان، باستخدام ما توفره لنا هذه التقنيات المبتكرة من معلومات سوف تمكننا من فكّ رموز تعقيدات السرطان وخباياه. فخوارزميات الذكاء الاصطناعي سوف تعيننا على تحليل كميات ضخمة من البيانات، بما في ذلك النماذج الجينية والسّجلات الطبية ونتائج العلاج، لتحديد الأنماط وكشف طرق جديدة في العلاج، بحيث يصبح الذكاء الاصطناعي حليفًا لا غنى عنه في تشخيص المرض واختيار العلاج المناسب وتوقع نتائج العلاج.
المريض مركز الرعاية
لكي نستطيع تقديم الرعاية المُثلى لمرضى السرطان يجب أن يبقى المريض هو المركز الذي تتمحور حوله هذه الرعاية وسيظل هذا المبدأ قائماً في المستقبل، ولا يمكن تحقيق ذلك دون خلق بيئة من التعاون والتقارب بين البحوث متعددة التخصصات، بما في ذلك علم الأورام والوراثة وعلم الأحياء الحوسبي والهندسة لتحقيق الإختراقات الثورية في مجال رعاية مرضى السرطان. وعلاوة على ذلك، سوف يكون المريض شريكاً أساسيّاً في عملية اتخاذ القرار فيما يخص التّجارب السريريّة والخيارات العلاجيّة.
الاستنتاج
بينما نلقي نظرة على مستقبل علم السّرطان، فاننا نلمح تحولاً عميقاً في رعاية مرضى السّرطان قد بدأ يلوح في الأفق، وستشكل الثورة الجينومية والطب الدقيق والفحوص الحيوية السائلة والذكاء الاصطناعي والنهج التي تركز على المريض جوهر هذا التحول، حيث سترسم هذه التطورات المجتمعة مستقبلاً يتميز بالرعاية المستنيرة والمبتكرة، والتي لا تقتصر على العلاج فحسب، بل تتعامل مع الجوانب النفسية والاجتماعية والعاطفية للمرضى وعائلاتهم.