ثلاثة عوامل لفهم نجاح النموذج الإماراتي
محمد كامل العمري
09-07-2023 07:07 PM
برزت الحراكات العربية مطلع عام ٢٠١١ كحالة أساسية للتغيير المنشود، إن كان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، حيث تكونت رؤى شعارتية في أغلبها تهدف إلى معالجة الإطار الناظم للسياق الجمعي، خاصة مع فقدان بعض الأنظمة قدرتها على تقديم الحماية الاجتماعية والاقتصادية بحدها الأدنى، الأمر الذي أدى، في مراحل لاحقة، إلى تأزيم المشهد السياسي في أكثر من بلد عربي، حيث تمظهرت حالة عدم اليقين متمثلة بالصرعات الدموية تارة وبانقلاب المشهد السياسي تارة أخرى؛ وليس انتهاء بانعدام الأفق السياسي بشكل واضح، ومن دون قدرة حقيقية على إيجاد بديل مناسب.
ولم تكن الدول المستقرة بمعزل عن حالة الانهيار الشامل، أو حتى فقدان الشرط الاجتماعي اللازم للتقدم الإنساني، إذ برزت، في تلك الدول، سرديات متعالية، ماضوية، تعمل على تأسيس نماذج متصلبة تمنع كافة أشكال الحياة، فكانت القوانين متوافقة مع تلك الروح الجمعية؛ التي تتمحور حول التصلب الأسري، العشائرية، العصبويات المتقاتلة، اضطهاد المرأة، تصادم الهويات.. الخ. كل ذلك يمكن ملاحظة وجوده في الدول القوية والضعيفة. ولكن، ومقابل ذلك، كانت دولة الإمارات تتجه بقوة نحو ترسيخ دولة القانون، القائمة على مؤسسات متماسكة تراعي الحق الإنساني بالعيش العادل. دولة تستمد شرعيتها من بريق نموذجها الجاذب للشعوب العربية، الذين، بدورهم، يرغبون بالعيش فيها أو زيارتها للتمتع بمعالمها السياحية. ولذا، ومن باب فهم جاذبية هذا النموذج، يحق لنا أن نتساءل لماذا كانت دولة الإمارات تمتلك طريقاً مختلفاً عن باقي الدول العربية؟ أو بالأحرى، لماذا أصبح نموذجها جاذباً للاستثمارات العالمية فضلاً عن المبدعين والمؤثرين على الرغم من توافر الموارد وبشكل أكبر في دول أخرى؟ هذه الأسئلة وغيرها يمكن الإجابة عنها ضمن السياقات التالية:
أولاً: المجال المديني الواسع
يمكن القول إن المجال المديني يعد من أكثر العلامات وضوحاً على انفتاح الدولة وقبولها للأنماط المختلفة عن سياقها الجمعي؛ تفهم الآخر وإدماجه ضمن الحياة المدينية والحضارية للدولة هو أمر يدلل على عقلانية نخبها وفهمهم للواقع العالمي. من هنا تكونت لدى دولة الإمارات، مع مرور الوقت، مدن كوزموبولتية استطاعت جلب استثمارات ضخمة، وجاليات من جنسيات مختلفة، الأمر الذي تطلب تفهماً للسياق الحضاري الجديد.
اليوم، تمثل الإمارات النموذج الأكثر وضوحاً في تقديم المجال المديني المنفتح على الآخر، والمحتفظ، في الآن ذاته، بقيمه واعتقاداته الخاصة، وفي الوقت الذي تعاني دول أخرى من تهتك مجالها المديني لصالح صراعات هوياتية لا نهاية لها؛ كانت الإمارات تقدم النموذج تلو الآخر في احترام القيم، والتسامح مع الأديان المختلفة، وإبراز صورة الإسلام الحقيقية بعد التشويه المتعمد من قبل المنظمات الإرهابية، فضلاً عن احترام خصوصيات الأفراد.
ضمن هذا الإطار، تظهر الإمارات اليوم كدولة جاذبة للمبدعين والمؤثرين؛ فهي، بحسب تصنيف معهد "انسياد"، تحتل المركز الأول على مستوى الوطن العربي في مؤشر تنافسية المواهب العالمية، وذلك بسبب السياسة المنفتحة التي تتبناها الإمارات تجاه زائريها من مختلف الثقافات، إضافة إلى الحراك الثقافي النشط المتمثل في المعارض، والمسارح، والمهرجانات السينمائية، ومسابقات الإنتاج والتحرير الإعلامي، ودور النشر، والدراما، والتنافس الروائي.
ولا يقتصر المجال المديني على الأنوية الثقافية فقط، بل يصل إلى تأسيس بنية متكاملة تختص بحقوق العمال؛ مثل متابعة وحماية نظام الأجور، والتدقيق على سلامة العمال ورعايتهم الصحية والاجتماعية، والقيام بالزيارات المتكررة لمراقبة أوضاع إسكانات العمال. ومن ناحية أخرى، اهتمت دولة الإمارات بالحقوق الكاملة للرعايا الموجودين لديها، وذلك عبر منظمات وهيئات حقوقية تعنى بمتابعة آخر التطورات المختصة بحقوق الإنسان. وهذه المنظمات تتمتع باستقلالية مالية وإدارية في ممارسة أنشطتها.
إن البنية الحضارية لدولة الإمارات تستطيع تلمسها عندما تشاهد الجمال العمراني الذي يجسد روح الحداثة وخصوصية الإرث والتاريخ؛ مثل "متحف المستقبل في دبي" و"برج كابيتال جيت المائل في أبو ظبي" و"جامع الشيخ زايد الكبير في أبو ظبي" و"أبراج الاتحاد". هذا التنظيم الجمالي أدى إلى جعل الإمارات دولة جاذبة ومفضلة للجماهير العربية؛ فبحسب استطلاع رأي الشباب العربي في ٥٣ مدينة عربية من ١٨ دولة عربية، كانت النتيجة أن الشباب العرب يرون في الإمارات أنها الدولة المفضلة للعيش والاستقرار، تليها أمريكا ثم كندا. وبالتالي استطاعت الإمارات أن تقدم نفسها دولة رائدة في مجال الحريات الاجتماعية، وذلك عبر سلسلة من القوانين العادلة التي تحمي جميع المتواجدين على أراضيها. وعلى الرغم من موجات التطرف التي تعصف بالمنطقة، من شرقها إلى غربها، إلا أن المجال المديني في دولة الإمارات بقي متماسكاً وقادراً على فرض نفسه، بل وأصبح اليوم يشكل نموذجاً لدول المنطقة.
ثانياً: الإنتاج غير النفطي
شهدت العقود الماضية تغيرات بالغة الأهمية، تمثلت بانتقال القوى الصناعية نحو بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية، بالتزامن مع تركيز الغرب على اقتصاد ما بعد الصناعة المتمثل بالإنتاج الثقافي والتقني والخدماتي. وعلى الجهة المقابلة، برزت، في الفترة الأخيرة، معادلات جيوسياسية تتعلق بسلاسل الإمداد والتوريد وضمان وصولها دون انقطاع أو تأخير، خاصة في ظل انبثاق أزمات كبرى غير متوقعة مثل فايروس كورونا، أو الحرب الروسية الأوكرانية. ولذا، ووفق هذه المعطيات، تبلورت حاجة ضرورية لوجود قطاعات صناعية متطورة وقادرة على المنافسة ضمن الأسواق العالمية، فضلاً عن تحول الأنظار والآمال نحو قطاعي الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي. الأمر الذي يحتم تضمين خطط مستقبلية تتجاوز العقلية التقليدية في إدارة الملف الاقتصادي المعتمدة على المداخيل البترولية، لا سيما وأن الدول الكبرى بدأت في الاستثمار الجاد حول هذه القطاعات الجديدة.
ضمن هذا السياق، وفي الوقت الذي كانت فيه بعض الدول الثرية تعتمد على دورها الأبوي ضمن اقتصادها الريعي، من حيث إنفاقها لأموال طائلة على مشاريع لا تحقق أي مردود فعال، أو بدعم مشاريع سياسية أثبتت فشلها في الشارع العربي، أو حتى بعدم إدراكها المتغيرات على الساحة الدولية؛ كانت دولة الإمارات تأسس لاقتصاد متنوع وذكي ومستدام، يعتمد على تدعيم القطاعات غير النفطية، حيث عززت دولة الإمارات اقتصادها عبر دعم المشاريع الإنتاجية، من خلال المدن الصناعية، ومراكز الابتكارات، وذلك عبر دعم جاذبية السوق المحلي. الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسبة مساهمة القطاع غير النفطي في الناتج الإجمالي بحوالي ٧٣٪ وهو ما انعكس على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لسكان دولة الإمارات، حيث أكسبهم هذا التطور مجالاً متقدماً على الجانب الحضاري.
وعلى أثر ذلك، تم استعمال مبدأ التنويع الاقتصادي وبلورة خارطة عمل مؤسسية تدعم وتحتوي هذا التنويع، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في نمو القطاع غير النفطي، حيث تم دعم نمو قطاع التشييد والبناء، وقطاع خدمات الإقامة والطعام، والأنشطة المالية، والتخزين، وتجارة الجملة والتجزئة، والأنشطة الرياضية، وقطاع الترفيه، إضافة إلى تسهيل وصول الشركات الكبرى إلى ابو ظبي وافتتاح أفرع رئيسية لها في الشرق الأوسط، وذلك بسبب المناخ المنفتح في دولة الإمارات، من حيث وجود تسهيلات كبيرة ممنوحة للمستثمرين الأجانب. فضلاً عن الاستثمار الكبير في قطاع بناء الموانئ واستئجارها، حيث تمكنت الإمارات الحصول على مركز إقليمي ودولي عبر دعم التجارة العالمية.
ثالثاً: التنبؤ بالمتغيرات
يعتبر فهم الأحداث والمتغيرات المقبلة مادة مهمة لفهم الواقع واستشراف المستقبل، حيث يرسم مخطط عملي يتم بمقتضاه تقديم تغذية راجعة عند اتخاذ أي قرارات أو مسارات من شأنها أن تساهم في تقدم البلد، وذلك من خلال مراكز دراسات وباحثين لهم باع طويل في العمل السياسي والأكاديمي. وعليه، يمكن النظر إلى الخطوات السياسية الكبرى، التي حدثت خلال الفترة الماضية، على أنها علامة بارزة في قدرة دولة الإمارات على توقع مآلات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
فمن ناحية التنبؤ السياسي، برز تراجع دور الجماعات الإسلاموية، وانحسار حضورها ضمن صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، كعلامة على نجاح الإمارات في ممارسة سياسة التنبؤ بالمتغيرات، إذ لم يتوقع أحد أن تكون التحذيرات الإماراتية المصاحبة للحراك الثوري قادرة على ترجمة نفسها أمام الكم الهائل من الشعبوية والمعلومات المضللة، خاصة في ظل سيطرة الإعلام الشعبي على السير العام للمنصات التواصلية، وتوجيه دول ومنظمات لرسم صورة سوداوية حول السياسة الإماراتية، وذلك من خلال الهجوم المكثف والتشويه المتعمد.
اليوم، ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن ما تكون في الأروقة الإماراتية من سياسات ورسومات مستقبلية كانت صحيحة تماماً، لا سيما وأن عامل التنبؤ قاد إلى تصور مفاده أن المنطقة العربية لن تتقدم بالديمقراطية وحدها دون القدرة على استخدام التقدم الاجتماعي. وبالفعل، وكما توقعت دولة الإمارات، فإن ما أثمرته نتائج الانتخابات، في أكثر من بلد عربي، هو استلام تيارات لا تؤمن بالدولة ومؤسساتها، أو بالمجموعات السكانية الأخرى، أو بالحياة الحداثية القائمة على احترام خصوصيات الأفراد، حيث ازدادت الحالة المليشياوية التي كادت أن تطيح بدول عريقة لولا تدخل مؤسساتها العسكرية.
إن الحالة الشعاراتية التي مورست في الفضاء العمومي كانت تقابل بسياسة حكيمة وهادئة من قبل دولة الإمارات، حيث لم تنجر إلى المتاجرة بالأوهام أو بيع الكلام أو التخدير بالشعارات دون تقديم مستوى اقتصادي متقدم يضمن حياة مستقرة لمواطنيها. وعلى الضفة الأخرى كانت الدول التي سارت وفق النهج الشعاراتي المخادع، في حالة يرثى لها، سواء بسيطرة البنى المتصلبة على قرارها السياسي، أو بالتأزم الاقتصادي نتيجة المواجهة غير المسؤولة مع القوى الدولية. وقد أثبتت الأيام قوة وصدقية مسار السلام، الذي اتخذته الحكومة الإماراتية، على باقي المسارات الأخرى.
وعلى الجهة الأخرى، وضمن قدرة الإمارات على قراءة المستقبل وتوقع مساراته، خاصة بما يتعلق بالعلوم وتقنياتها، فقد تم إطلاق برنامج الإمارات لرواد الفضاء بهدف تطوير فريق وطني من رواد الفضاء يحقق تطلعات الدولة في الاستكشافات العلمية، والمشاركة في رحلات الاستكشاف المأهولة. وبالفعل، فإن الأهداف المرسومة حول هذا البرنامج كانت تهدف إلى دعم اقتصاد المعرفة، خاصة مع التوجه العالمي لاكتشاف خفايا الكون. هذا فضلاً عن سعي دولة الإمارات (الدولة العربية الوحيدة في هذا المجال) لتطوير حاسوب كمومي يساعد على التخلص من بعض الأمراض الخطيرة، ويكشف كثير من الألغاز العالقة في الأذهان.
ختاماً؛ تكمن قوة الإمارات في القدرة على فهم إمكانياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعدم التصادم الحاد مع البنى الأخرى، وتعزيز البنية الحضارية للدولة من خلال برامج مكثفة تدعم آليات التقدم الإنساني، ليس فقط على المستوى المحلي، بل والعالمي أيضاً، مثل المنظمات الخيرية التي تقدم الدعم والمساعدة للمحتاجين عبر العالم، وهو ما جعل دولة الإمارات منارة يحتذي بها كل باحث عن الأمل والاستقرار والاحترام الإنساني. وبالتالي فإن العوامل الموضوعية المذكورة في هذا المقال تمثل الأساس الذي تستند عليه الرؤية الإماراتية في نجاح نموذجها الخاص، وضمان تقدمه على كافة المستويات.