بعد كل وجبة مطر..كان يبدو بيت الطين غامقاً شهياً كعجنة حناء، وبابه الخشبي ثقيلاً ورطبا.. كلما دخله داخل أو شاغبته الريح ، أحدث صريراً كصوت حارس ملول..
اذا حل المساء ،هجرت ازواج الحمام أماكنها على جسور البيت البارزة ، ودخلت طواقيها بعد ان ترقص حول نفسها قليلاً لتودّع النهار المتلاشي، تغلق أمي باب الخم على الدجاجات تدعمة بعصاً غليظة وحجر ثقيل، هناك .. تتساوى في العتمة شجاعة الديك مع جبن الدجاجة ولم يعد للصياح والاستعراض والمطاردة أي دور..
في بيت الطين ..كان لي أخوة جادون في دراستهم ،يضعون أيديهم تحت بطونهم وينحنون صعوداً ونزولاً على كتبهم وكأنهم سيسجدون عليها،دفاترهم مستعملة، على أغلفتها صورة «الأقصى» او خارطة الوطن الكبير .. في زاوية البيت «ابريق ديزل ومحقان» ، وفي مركز الغرفة صوبة «بواري» تحمل على رأسها طنجرة تغلي بغداء الغد،وإبريق شاي مملوء بماء «المزراب « الجنوبي، ينتظر دوره في الصعود.
في بيت الطين ..يتعرق الجدار من بخار الماء و»تمتمة» الدارسين، وصوت أم كلثوم الطالع من بين الوسائد : «القلب يعشق كل جميل»..يشوّش على الراديو تيّار برق مفاجىء..يلمع من النافذة العالية ،و دوي رعود يدبّ فوق بيتنا تماماً..فيتمتم أبي « سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته».
في بيت الطين ،كان ينتصف ليلنا عند الساعة الثامنة ، نوزّع صحون النحاس تحت أماكن الدلف ، كلما اشتدّ المطر في الخارج تسارع نبض المطر في الداخل..يأخذ كلّ منّاً مكاناً في الغرفة.. نحبس مغذي الديزل عن الصوبة، فيخف وهجها حتى تنطفىء ، نتغطى بألحفة بيضاء، نقرأ المعوذات ، نراجع الدروس وأرقام الصفحات..وكلما اشتد قصف المطر على النافذة الشمالية ،تكوّرنا تحت ألحفتنا أكثر ، وكلما لمع برق من الشباك ، أو دب رعود طازج ، أو اهتزّ الباب بصوته المبحوح من هبّة ريح..»سبّحنا الذي يسبحّ الرعد بحمده» وغمرنا وجوهنا بوسائد الرضا ونمنا..
**
عندما تجري «الهموم» بالمزاريب..لا أريد شيئاً سوى كسرة طمأنينة ..وقليل من الدلف؟.
(الرأي)