كل الجراح التأمت جراحها، إلا جراح الجسد الفلسطيني؛ مازال مثخنا بالجراح والألم، غارقا بدماء الأبرياء والنساء والأطفال.. جرح جسدا موشوم بأخاديد وشقوق أزلية وخالدة...
جسد منفصل عن صاحبه، ومفرغ من كل الحمولات الانسانية والتاريخية. هي فلسطين الأرض والقضية؛ الوطن الغائب حينما تنوب عنه جراحه، والحاضر عندما تحرسه الذئاب التي ترعاه. هي فلسطين هوية الأمة وقضيتها المركزية؛ التي ما فتئت تئن تحت وطأة الغدر والخيانة ، والتي مازالت ضحية اهتراء العروبة؛ بتراكم الهزائم والنكبات، وبتعدد الخصومات والخلافات.
وظل تاريخ فلسطين مقترنا بالوعود الكاذبة، بدءا من وعد بلفور عام 1917، ثم أوهام المؤتمرات الدوليه والعالمية والتي تنادي بشعارات لحقوق انسانا مهدورا دمه وطفلا محروما طفولته وأمنه وامراءة مسلوبة حقها بعائلة مستقرة امنة . أصبحت الوعود الكاذبة بضاعة معلبة؛ تصدرها الدول العظمى لأرض العروبة، والعلب تحمل دليلا مبسطا؛ للاستعمال والاستهلاك، وصناعة الطغاة والهتاف بحياتها، واستغباء الشعوب والتنكيل بها .
قضية كشفت عن عورة الدول الغربية، ، فتلك تدعي حقوق الإنسان والشرعية الدولية والديمقراطية، ولكنها تدعم كل أساليب الفتك والإجرام والعنصرية. وما لأنظمتنا العربية، إلا ظواهر صوتية لشجب الجرائم و المجازر، فالدول الإمبريالية سعت جاهده لبسط سيطرتها بثقافة المصلحة . وبين هاته وتلك، بات تاريخنا متخصصا في محو الذاكرة، ولم يعد يكتب شيئا إلا عن النكبات والانتصارات و الأحلام المؤجلة.
أما جنسية فلسطين فقد أمست مقترنة بالتهجير والغربة المزمنة، وذلك حينما أصبح سكانها الأصليون؛ لا يزورنها إلا ضيوفا مغتربين ،. وعندما أصبحوا عاجزين، لم يعد أمامهم إلا المناداة بمطلب حق العودة؛ رفضا لتكريس ثقافة النسيان، نسيان الوطن، ورفضا لمبدأ التطهير العرقي، وحملا للهموم والأحلام معا؛ أملا في العودة إلى الوطن فلسطين،
وأملا في كسر الحواجز الإسمنتية والأسلاك الشائكة .
وهكذا قسمت فلسطين فكل فرد يمر أمامها إلا ويأخذ منها قطعة، كبر حجمها أو صغر، وكلما نظر في القطعة التي استلها؛ إلا واعتبرها ذلك الجزء الذي يضمر الحقيقة كلها. ففلسطين إذن، تبدو فريسة؛ تقاسمتها أيادي الاحتلال المغتصبة، وحولت شعبها إلى عائلات تعيش على هامش وضواحي الإنسانية .
إن إعادة كتابة التاريخ، ليس لمجرد الكتابة والسرد فحسب، بل إن استحضار الأحداث التاريخية يفيد في الفهم والاستيعاب والعبرة أيضا. التاريخ لا يعيد نفسه إلا للأقوياء فقط، أما الضعفاء والمهزومون فمثلهم مثل الموتى؛ لا يقومون من القبور، ولا يصنعون مجدهم ومجد القضايا التي آمنوا بها وماتوا من أجلها .
ولأن تاريخ أمتنا يبدأ مثل الأحلام الجميلة، فسرعان ما يتحول إلى كوابيس مزعجة ، فالخوف والفراغ يملأ ذاكرتها؛ بعدما توقفت الملاحم والانتصارات، وانتهى معها الزمن العربي الجميل، ولم يعد العرب يعيشون ويحيون إلا خارج هذاالاطار الزمني، ولم نعد نشاهد إلا عروبة تعيش سباتا، بل غيبوبة كاملة؛ تتشابه فيها الليالي والأيام، وتتساوى فيها الرؤى والأحلام .، عروبة تعيش شيخوخة تشكل عبئا وحملا ثقيلا على الشعوب .
فلسطين ايقونة الامة العربية، أرض الأنبياء وأرض الملوك ، و التي ارتبط اسمها فيما بعد بالإسلام والفتوحات. غير أن التاريخ الحديث لفلسطين، بدأ عندما تواطأت الدول الغربية، وعلى رأسها بريطانيا، على مساعدة الكيان الصهيوني من الهجرة إلى أرض الميعاد وإقامة مشروعهم الاستيطاني؛ ابتداء من الربع الأخير من القرن 19 الميلادي .
ولإقناع العالم الغربي لاحتلال فلسطين واغتصاب المقدسات، استند الصهاينة على الأساطير والخرافات والأباطيل؛ واستنبطوا منها حججهم وذرائعهم وأسانيدهم التاريخية والدينية والقانونية والإنسانية، وقد اختاروا وقتا مناسبا لاغتصاب أرض فلسطين؛ التي كانت حينئذ ترزح تحت الانتداب البريطاني، بعد الحكم العثماني؛ الرجل المريض؛ فتوافد سكان إسرائيل من كل فج عميق من أرجاء العالم؛ بما فيها الأقطار العربية، حيث تضم كل القوميات وكل الأعراق وكل الأجناس، وتضم كل اللغات وكل الإثنيات وكل الثقافات؛ يجمع بينها الانتماء للصهيونية ليس إلا .
ففي الوقت الذي اعتقد الغرب أنه وضع نهاية سعيدة للكيان الصهيوني، في هذا الوقت خلق مشكلة إنسانية أشد مأساة وتعقيدا؛ ضحيتها الشعب الفلسطيني الذي تحول، شيئا فشيئا، إلى عائلات واسر متشردة ومجموعات من اللاجئين؛ تعيش في الشتات وتبحث عن المأوى والأمن
هكذا تتوالى وقائع التاريخ العربي عبر القرون الطويلة من الصمت المريب والتفرقة؛ محملة بالمآسي والحروب. ولعل تاريخ فلسطين، القديم والحديث، يختزل كل هذه النكبات والانتكاسات والكوابيس. وكل أماكنها لا تعرف إلا آثار الدمار والأنقاض التي تملأ كل أحيائها وأزقتها وشوارعها، وأعراض الخوف والذعر والصراخ تملأ كل القلوب.. كل الأماكن مليئة برائحة العراء والبارود وجثث الشهداء وبكاء الأطفال وعويل النساء.. أماكن تمنحك إحساسا بأن الانتماء للعربية، ليس انتماء لعرق ولا لجنس ولا للغة، ولكن إلى قدر قاس لا مفر منه .
ولم تكن سنة 1948، سنة قيام دولة إسرائيل، إلا خطط صهوينية محكمة ومدعومة بالأساطير والأكاذيب، وظفها الصهاينة وروجوا لها في العواصم الأوربية؛ مستعينين بالمكر والدهاء. لم يفتهم كذلك أن يلعبوا دور الضحية، ليضفوا الطابع الإنساني للمسألة اليهودية المتمثل فيما يسمى بالهولوكوست. ومن ثم يحق لهم تبرير افتراءهم بفلسطين
إن خطة الكيان الصهيونيه، ليست فقط تحقيقا لحلم العودة، باحتلالها واغتصابها عسكريا، وتغيير ملامحها جغرافيا وحضاريا، وإنما كان الهدف الأكبر هو احتواء المنطقة العربية تحت هيمنته وسيطرته؛ ضمن منظومة سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية على نمط الصهيونية .
تاريخها ملئ بالدسائس والمؤامرات وتزييف الحقائق وتزويرها.
هل هذا هو القدر الجغرافي ؟، و هل هذه هي الحتمية الجغرافية لفلسطين ؟.
لا يملك الفلسطيني اليوم، وهو يرى أرضه تصرخ وسط الصمت الجبلي الموحش الذي يحاصرها من كل الجهات، ويرى أنهارها، عندما ينحسر ماؤها، تبرز جثث الشهداء الذين يقتلون كل يوم برصاص الغدر؛ بلا ذنب وبلا ثمن، لا يملك إلا الوقوف عند الديار، والبكاء على الأطلال، ويتذكر أنه كان يدمن الجلوس على عتبات فضاءاتها؛ في الجوامع والبيوت والمقاهي والقدس أيضا .
وهكذا بات الفلسطيني ضحية العلاقة الملتبسة بين الضحية والجلاد؛ في زمن عربي استثنائي؛ لم تعد فيه العروبة قادرة على تجاوز الأوضاع وصنع المصير. ، مع توالي مؤتمرات السلام وبزوغ مخدر التقسيم،لا معنى ولا اعتبار. ضمادا للجراح التي تنزف في أرجاء فلسطين، وكان اللجوء إليه للتعبير والصراخ فننا؛ حتى لا يعم الصمت والصمم، فهو الذي يحمل الآلام والآهات وينقلها إلى كل بيت وقرية ومدينة. كان الغناء الثائر، والشعر الصادح، والريشة الساخرة، فنا حاملا للقيم الإنسانية والأخلاقية ومتنفسا للإنسان الفلسطيني والعربي على السواء
أصبح العيش في فلسطين كالعيش في المنفى. إنسانية الإنسان تطالها الجرائم كل يوم. إنسانية تحتضر وترثي نفسها قبل انقضاء الأجل؛ أطفال متناثرون في أرض منسية تواجه الموت كل يوم، يتدربون على لعبة القط والفأر؛ لعبة الفرار، ويتمرنون على هواية التنفس. تضاعفت لديهم حركات الشهيق والزفير، بل تحولت الحركات إلى مبدأ لدى كل الفلسطينيين. تعلموا رياضة الركض تحسبا للرصاص وللكلاب المروضة على اصطيادهم، وتدربوا على التنفس تحسبا للغازات المسيلة للدموع .
وآخرون يعيشون في غياهب المعتقلات أو في الملاجئ والمخيمات، مخيمات نصبت على حافات دول الطوق. والفلسطينيون لا يدرون أيندرج الشتات ضمن المبادرات الإنسانية أم ضمن تواطؤ محبوك سلفا لاحتوائهم وتحنيطهم إلى أجل غير مسمى. والملاجئ حتما، ليست إلا أوكارا لإنتاج الخلود في الفقر والأمراض والأمية .
هكذا اعتاد الفلسطينيون على إيقاع الرصاص، وعلى الترانيم الجنائزية إيذانا بالشهادة .. اعتادوا على التهجير من موطن سكناهم أو الاقتياد قسرا إلى السجون؛ منفى الوطن، إلى عتمة الأماكن واستلاب الكرامة والحرية، واستلاب معاني الحياة؛ الحياة التي لم تعد تعني سوى خيط رفيع من أشعة الضوء التي تنفذ بالتقسيط إلى الزنازين .
داعية الله ان يحفظ فلسطين شعبا وارضا وهو وعد الله.