الإساءة للقرآن الكريم هدم للمشترك الإنساني
علي السنيد
01-07-2023 10:04 PM
ربما لم يحظ كتاب سماوي على مدار التاريخ بالمكانة التي يحتلها القرآن الكريم في قلوب اتباعه، وفي العالم اجمع، وليس ادل على ذلك من العناية، والالمام به حرفا حرفا ، وكلمة كلمة ، واية ، وسورة، وقد تم وضع ملايين الكتب في دراساته عبر القرون، وتولي الملايين من العلماء على مدار التاريخ مهام تدوينه، وتدوين علومه، ونهضت اجمل الاصوات في العالم الإسلامي بمهمة ترديده الاء الليل، واطراف النهار، ولا تخلو جامعة في العالم الإسلامي من وجود قسم للشريعة يعتمد القرآن فيها، ولا يمكن إحصاء عدد النسخ التي طبعت من هذا الوحي الخالد، ولا يخلو بيت مسلم من وجود عدد من نسخ القرآن فيه، وهو مجال للتبرك ، والتطيب به.
وهو الكتاب العظيم الذي استمد منه العرب، والمسلمون عزتهم، ومكانتهم الحضارية، وتحولوا على اثره الى امة خالدة في التاريخ، قوامها العلم والمعرفة، واشاع فيها منظومة قيمية تقوم على المدنية، والعالمية.
وكان الكتاب الأول الذي بدء الوحي فيه باقرأ فضلا عن اثره الروحي الكبير في الانسان، والارتقاء به، واخراجه من ظلمات الشرور، والآثام الى نور الهداية، والخلق القويم هو الباعث على تولد العلوم، والمعارف في اطار حضارة عالمية انصهرت فيها كل الأعراق، والألوان، والاجناس لتشكل الامة الفكرية الأولى في التاريخ، والتي لا تقوم على اساس العرق، والعصبية القومية.
وقد أثر القرآن العظيم على الحركة الفكرية، والعلمية في مسيرة البشرية، وتقدمها، وذابت في الامة الاسلامية الهويات القومية، والوطنية، وأشاد البنيان الإنساني على أساس من إنسانية الانسان.
وخرج من بطن علوم القرآن دلالات على شتى العلوم المادية الأخرى، وقد تمت دراسته بكل حرف فيه ، ومن خلال حركة توثيق الاحاديث النبوية الشريفة ولدت القواعد الفقهية في الامة الإسلامية، وكان لعلوم ومعارف الشعوب التي دخلت الإسلام كمشارك في نهضته وحضارته الأثر البالغ ، ولحركة الترجمة أيضا تأثيرها ، وهو ما اسفر عنه بزوغ امة ضالعة في التاريخ تربعت على عرش العالم لقرون متواصلة، واثرت على مسيرة الإنسانية وتطورها.
والكتاب الإلهي الأول في الجزيرة العربية القرآن الكريم كان يضع حجر البداية فيما بعد لمليارات الكتب، والمؤلفات في شتى ضروب المعرفة، والفكر، والعلم عبر ما يقترب من خمسة عشر قرنا ، والتي تزخر بها المكتبة العالمية اليوم، وقد خرج القرآن العظيم بالعرب من واقع تشتتهم الى طور المدنية، وصدق الله العظيم القائل " كتاب فيه ذكركم".
ولم تستطع الثورة العلمية، والحركة الفكرية الحديثة من ان تنال من مكانة القرآن وعلميته فضلا عن انه منجم روحي كبير، وكان لبعض الآيات دلالات علمية، واعجازية، ومنها "الأرض ذات الصدع" ، و التي لم تكن في مكنة وسائل المعرفة حتى القرن السادس الميلادي لادراك الصدع الذي يلف الكرة الأرضية في أعماق المحيطات، والاية الاعجازية ايضا " ثم استوى الى السماء وهي دخان" ، وهو يشير الى تخلق النجوم والاجرام في السماوات، ولم تكن العلوم ووسائل البحث وصلت الى رصد السموات في تلك الحقبة من التاريخ البشري، وهو ما يؤكد انها علوم موحى بها على سبيل الاعجاز ، وكذلك وصف مراحل تخلق الجنين في بطن امه ، والذي لم يكن متوفرا في علوم الطب الى ما قبل القرن السادس الميلادي، ومنها كذلك الاية المعجزة بقوله تعالى " سأرهقه صعودا" او "كأنما يصعد في السماء " وفي ذلك اخبار عن تناقص الاوكسجين في الاعالي التي لم يسبق للإنسان ان وصلها حتى ذلك التاريخ ، وهذا وحي من الغيب حيث لم تكن العلوم وصلت الى هذه المعرفة. وكذلك الاية الكريمة "غلبت الروم في ادنى الأرض..." اي البحر الميت حيث ادنى انخفاض في الكرة الأرضية.
ومنها أيضا "والشمس تجري لمستقر لها"، والشمس دائرية الشكل، وهو ما أوحى بعد ذلك لعقل الانسان لاتخاذ الدائرة وسيلة في الجريان، والحركة، وهو غير المتاح عمليا للمثلث، والمربع، والمستطيل، وانما الجريان، يكون ىالدائرة، والتي تولد عنها الإطارات المستخدمة اليوم في العرابات، وحركة السيارات على كل الطرق، وحتى الطيران. وكثير من الإشارات في القرآن العظيم تهدي الى بوابات العلوم ليفتحها الانسان بعد ذلك على مصراعيها، ويذلك التقى مع كل العلوم والمعارف ، وكان دافعا للبحث فيها.
وهذا الوحي الخالد ما يزال يشكل القيم الإنسانية، والمشترك الإنساني، حيث يجمع الناس من مختلف الشعوب والقارات على الايمان بالفضائل، ولا شك ان الأمم، والشعوب لها بعد حضاري يستقيم وفق منظور انساني مشترك، ولا يليق اخضاعه لاهواء الفرد المتعصب، او بعض الافراد المأفونين ممن قد يفتقدون للقدرة على فهم أهمية المشترك الإنساني، والحفاظ عليه.
وعندما تصل السفاهة، والتعصب الاعمى بالبعض الى الاستهزاء بالإسلام لاكتساب الشهرة، فهذا الأصل ان يحفز الدول الحرة لدواعي الحفاظ على المشترك الإنساني، وعدم السماح بهدمه تحت مبررات حرية الرأي التي لا تنال بالاستهزاء بالمعتقدات الخاصة بمليارات البشر ، او برموزها التاريخية، ومقدساتها، وتطال هذه الاساءات مواطنيها في كل القارات والدول .
وان الحماقة التي اقدم عليها الشاذ المأفون "سلوان موميكا " من حرقه للقرآن الكريم بهذه الطريقة الاستعراضية للفت النظر اليه لعلمه المسبق بالمكانة الكبيرة التي يتبوأها القرآن العظيم في عموم البشرية، وكون هذا الحدث سيتحول الى عالمي، ويسلط الضوء عليه، وان كان عمليا يضعه في اسفل السافلين، وكذلك لاحداث شرخ عالمي، وتعميق الازمة الحضارية بين الشرق، والغرب، و لتطال الإساءة مليار ونصف المليار مسلم في كافة إرجاء الأرض، والذين يصار الى تحديهم في عقيدتهم. فهذه الحركة الشيطانية ليست حرية رأي ، او ممارسة للتفكير، والتعبير، وإنما إثارة للكراهية الدينية، وهدم للمشترك الإنساني، وإحداث شرخ في النظام الإنساني، وتأجيج واذكاء للصراع الديني، وهو يؤشر الى الاسراف الكبير في مفهوم الحرية في بعض المجتمعات الغربية.
وهؤلاء أعداء الانسانية، والقيم الإنسانية ، والروحية، والذين يخرجون في كل عدة اشهر مرة ، ويتسبب احدهم بأذية تطال مشاعر المسلمين في العالم سواء في كتابهم المقدس، او ما يتعرض له الرسول الكريم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام من حملات إساءة، وما يتعرض له الإسلام من تشويه متعمد يجب ان لا يجدوا حماية قانونية في أي دولة، وان تسهل عملية تقديمهم للقضاء على اثر هذه الجرائم التي يرتكبونها ، وتؤذي مشاعر المسلمين، وتفويت الفرصة على الباحثين عن الشهرة من خلال صدم مشاعر دول، وشعوب بأكملها.
والعالم الديموقراطي معني اليوم بالحفاظ على قيم الديموقراطية التي لا يجوز فيها لبعض الأقلية او الشواذ ان ينالوا من اغلبية سكان العالم التي تجمع المسلمين وغير المسلمين بهذه الطريقة الوقحة التي لا تراعي الاخلاق، والقيم الإنسانية. وبغير ذلك سيبقى العالم يولد أسباب التطرف، والعنف، والتعصب الاعمى الى اماد غير معروفة.
واليوم تحضرني في سياق حدث احراق القران العظيم قصة ذلك القرمطي الذي انتزع الحجر الأسود من الكعبة المشرفة بعد ان اجهز على نحو ثلاثين الف حاج من حجاج ذلك العام المشؤوم في التاريخ، وقد تعلق العديد منهم بأستار الكعبة، وكان يقول، وهو شاهر سيفه " اين الطير الابابيل".
وقد زال القرمطي، وتحول الى خبر صغير في التاريخ، وبقيت الكعبة، وبقي الحجر الأسود، وظل الإسلام العظيم يتخطى القرون، وهو يتوسع حتى بلغ اقاصي الأرض، واعتنقته الناس من كل القارات، والدول، وهو خالد الى ان يرث الله الأرض، ومن عليها.