لن انسى تلك اللحظة التي غشيت مواقع التواصل الاجتماعي إثر واقعة الشاب الذي تردّى من فوق عامود الضغط الكهربائي قاتلا نفسه.
اندثر الأمر وكأنه لم يكن مثله مثل أي ترند آخر حيث كنت منهمكا في كتابة مقالاتي التي لا تنتهي اطالع الاخبار بين حين وآخر لئلا أفقد كليا اتصالي بالعالم الخارجي.
كان ذلك حين هاتفني احد اصدقائي القدامى تبادلنا بعض الاحاديث عن احوالناثم سألني بنبرة هادئة يا صديقي هل توجد وسيلة سهلة للانتحار؟.
ضحكت قليلا ولكن للحظة سَرت في جسدي رعشة ثم سألته بنبرة مشاكسة شو نويت يا معلم؟
فأخبرني وبنفس النبرة الهادئة ان الحياة لم يعد لها معنى وأنه يحادثني لاختار له طريقة انتحار فعالة وبصفتي صديق قديم قالها وكانه يطلب مني ان اختار له فيلما يزجي به وقت فراغه أو كتابا يؤنسه في ساعات الليل كانت نبرة صوته على قدرٍ مربك من الجدية والهدوء والبساطة فلم أجد مفرا من الإجابة عن سؤاله أخذت أستعرض وسائل الانتحار مشيرا إلى احتمالية فشل كل وسيلة والألم الناتج عنها الغرق الحرق جسر عبدون اسطح العمائر والسموم.
حتى انتهيت الى الجزم بأنه ليس ثمة وسيلة انتحار مضمونة كليا أو على قدرٍ مُحتمل من البشاعة اللهم إلا مُسدس في الفم وذلك لن يتسنى لنا اقتناؤه استمع الي باهتمام ومن ثمّ وبنفس الجدية البسيطة شكرني اكتب لي مقالا عن الانتحار وأغلق الخط سأعفيكم وأعفيه هو الاخر.
لأنني أعلم أنه يقرأ المقال الآن من سرد الاحتياطات التي اتخذتها إذا كانت قرائتي للموقف خاطئة ولكن ما استحوذ على ذهني آنذاك ….
تلك السلاسة التي سرت بها المحادثة برمتها فجلست إلى اللابتوب وكتبت في محرك جوجل : حكم الانتحار في الإسلام وكانت الإجابات صارمة وقاسية بلا تفسيراتٍ أو جدالات فلسفية إن الأمر حرام لماذا؟
لإن النبي قال كذا وكذا حاولت جاهدا ان اجد مخرجا للخلاص من ضنك الحياة فلم اجد مخرجا ولكن ماذا لو كانت الحياة لا تُطاق؟ فكانت الاجابة استعن بالصبر وتذكر أخبار الأولين وكم عانوا من قبلك.. ماذا لو كان الفقر ينهش عظامي فلا أجد في الحياة من سبيل؟ فكانت الاجابة ايضا تذكر أهوال الجحيم واستشعر الخشية في قلبك وغيرها من أساليب الترهيب وبث الرعب في القلوب .
أغلقت الموقع وفتحت آخر كتبت : حكم الانتحار في المسيحية لم يكن الأمر أقل قسوة فنبرة الترهيب والاستنكار ذاتها حتى أن كلا المقالين لم ينسى بالطبع أن يذكر أن مُجرد الصلاة على المنتحر أو الدعاء له غير مُستحبة وقد ذكر البعض أنها مُحرمة .
ما ظل يُلحّ على ذهني منذ تلك اللحظة لم يكن الطريقة التي ينبغي بها معاملة ذوي الميول الانتحارية ولا السبيل الذي إن توخيناه قللنا معدلات الانتحار في العالم ما ظل يلح على ذهني هو سؤال أعمق عن أخلاقية الانتحار نفسها!
ولماذا يتعامل البشر أصلًا مع الانتحار على أنه ظاهرة يجب علاجها؟
لماذا لا تكون هي العلاج الوحيد لحياة مأساوية؟
لماذا لا يكون الانتحار …. في بلدٍ كهذا ….وفي عصـر كهذا ….هو أشد الخيارات منطقية …….؟ لك الصواب يا صديقي واخي ( ا…..م ).
قرأت في بعض الصحف أن رجلاً من تجار المسلمين انتحر لا لضيق يد … أو شدة مرض … أو بؤس حال …بل لأنه حزن على وفاة صديق له … فقتل نفسه .
إن الرجل المؤمن يعتقد ولا شك بسوء عاقبة المنتحر .. فكيف هان عليه وهو في آخر يوم من أيام حياته أن يضم إلى خسارة دنياه خسارة آخرته ….
وهي العزاء الباقي له عن كل ما لاقاه في حياته من شقاء … وعناء ….؟
إن الانتحار نزعة فاسدة وعادة مستهجنة رمتنا بها المدنية الغربية فيما رمتنا به من مفاسدها وآفاتها .
ولقد كنا نعجب قبل اليوم من تهالك الشرقيين على حب تقليد الغربيين حتى فيما يؤذيهم في شرفهم وكرامتهم ..
وكنا إذا أردنا المبالغة في تمثيل هذا التهالك قلنا يوشك أن يقتل الشرقي نفسه بنفسه إذا علم أن تلك عادة من العادات الغربية فقد صار قريباً ما كان بعيداً … وأصبح مألوفاً ما كنا نعده فرضاً من الفروض .
الانتحار منتهى ما تصل إليه النفس من الجبن والخوف وما يصل إليه العقل من الاضطراب والخبل وأحسب أن الإنسان لا يقدم على الانتحار وفي رأسه ذرة من العقل والشعور .
حب النفس غريزة خلقها الله تعالى في نفس الإنسان لتكون ينبوع حياته .. وعماد وجوده والمنتحر يبغض نفسه أشد مما يبغض العدو عدوه فهو شاذ في طبيعة تفكيره.. غريب في خلقه معاند لإرادة الله تعالى في بقاء الكون وعمرانه ومن كان هذا شأنه كان بلا قلب ولا عقل .
لا عذر للمنتحر في انتحاره مهما امتلأ قلبه بالهم ونفسه بالأسى ومهما ألمت به كوارث الدهر وأزمت به أزمات العيش.
فإن ما قَدِمَ عليه أشدُّ مما فرَّ منه .. وما خَسِرَهُ أضعافُ ما كسبه.
ولو كان ذا عقل لعلم أن سكرات الموت تَجْمَعُ في لحظة جميع ما تفرق من آلام الحياة وشدائدها في الأعوام الطوال وأن قضاء ساعة واحدة فيما أعد الله لقاتل نفسه من العذاب الأليم أشد من جميع ما يشكو منه وما يكابده من مصائب حياته وأرزائها لو يعمر ألف سنة .
فيا صديقي ما أكثر هموم الدنيا وما أطول أحزانها لا يفيق المرء فيها من هم إلا إلى هم ولا يرتاح من فاجعة إلا إلى فاجعة مثلها …
ولا يزال البشر يترجحون فيها ما بين صحة ومرض .وفقر وغنى .. وعز وذل .. وسعادة وشقاء …….
فإذا صح لكل مهموم أن يمقت حياته ولكل محزون أن يقتل نفسه خلت الدنيا من أهلها واستحال العمار فيه بل استحال الوفود إليها وتبدلت سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً يخدع المنتحر نفسه ان ظن انه مقتنع بفضل الموت على الحياة.
وأنه إنما يفعل فعلته عن روية وبصيرة فإنه لا يكاد يضع قدمه في المأزق الأول من مآزق الموت حتى يثوب إلى رشده وهداه ويحاول التخلص مما وقع فيه لو وجد إلى ذلك سبيلاً .
إن ألقى نفسه في الماء تخبط وبسط يده إلى من يرجو الخلاص على يده وود لو يفتدي نفسه بكل ما تملك يمينه وإن حبس نفسه في غرفته ليموت مختنقاً بالغاز ولو سقط عليه سقف الغرفة ليستنشق نسمة من نسمات الهواء ولو عاش بعد ذلك كسير اليد والرجل فاسد السمع والبصر .
إن فكرة الانتحار نزغة من نزغات الشيطان يا صديقي وخطوة من خطوات النفس الشريرة فمن حدثته نفسه فليتريث ريثما يتبين كيف يكون صبره على احتمال سكرات الموت وآلام النزع وماذا يكون حديث الناس عنه بعد موته وهل يمكن أن يوجد بينهم عاذر له أو مشفق عليه او مقتصد في النيل منه والسخرية به …..؟
وليعرض على مخيلتك قبل ذلك أشكال العذاب وأنواع العقاب التي أعدها الله في الدار الآخرة .
إني لا أظنك بعد ذلك فاعلاً إلا إذا كنت وحشاً في ثوب إنسان أو بطلاً من أبطال العالم الافتراضي .
فهل لا زلت تريد الانتحار ….؟!!
فانا يا صديقي سعيد وسعيد جدا انك موجود في عالمي .