جمهورية أتاتورك وجمهورية أردوغان
داود عمر داود
28-06-2023 07:43 AM
تركيا بين جمهوريتين:
خلال حملة الانتخابات التركية، أدلى مرشح المعارضة الخاسر، كمال كليتشدار أوغلو، بتصريح مبهم، قال فيه: إن (أردوغان دمر تركيا). وكان من الصعب فهم معناه، في ضوء ما حققته البلاد من تقدم، في عهد أردوغان. ولا يمكن تفسير تصريح أوغلو إلا إذا عدنا إلى المنطلق الفكري للمعارضة التركية. وعندها نجد أن التهمة صحيحة بحق أردوغان. لكن كيف؟
جمهورية أتاتورك "الأولى":
بالنسبة للعلمانيين السائرين على نهج مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، وهادم الخلافة العثمانية، قبل مئة عام، فإن تركيا التي يعرفونها هي تركيا التي تدور في فلك الغرب، والمرتهنة به في شتى مناحي الحياة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية. تركيا الانقلابات العسكرية، المنهوبة ثرواتها، المنقادة لصندوق الدولي. تركيا التي ركنت جانباً دينها وإرثها الإسلامي، والتي لا تتحمل سماع صوت الأذان، أو إقامة الصلاة، أو رؤية الحشود تتجه، في عتمة الليل، لأداء صلاة الفجر. تركيا التي لا تتحمل الحجاب، ولا تتحمل أن تسود الفضيلة فيها.
جمهورية أردوغان "الثانية":
فتلك إذن هي تركيا القديمة التي يشكو أوغلو من أن أردوغان قد دمرها. فهو كان يتحدث في الحقيقة عن هدم (جمهورية أتاتورك "الأولى"). وإن سأل أحدٌ أردوغان عن هذه التهمة، فإنه سيعترف بكل فخر، أنه هو الذي هدم بيديه الجمهورية القديمة، بتدرج وتأني، وبمناورات ودهاء، وبذكاء وفطنة، وبإخلاص وعمل دؤوب. وها هو على وشك أن ينتهي من إقامة الجمهورية الجديدة "الثانية"، التي يأمل أن تعيد الأمجاد، التي حلم بها أُستاذه نجم الدين أربكان.
أحلام أربكان:
يقول كثيرون أن إنجازات "الأستاذ أربكان" في سنة واحدة في الحكم، نهاية التسعينيات، هي التي مهدت الطريق لهدم تركيا القديمة ووضعت الأسس لبناء تركيا الجديدة. ولم تقتصر أحلام أربكان على بلاده، بل شملت النهوض بالعالم الإسلامي برمته، من خلال تأسيس (إتحاد إسلامي)، و(أمم متحدة) إسلامية، و(ناتو) إسلامي وتصنيع السلاح، وسوق إقتصادية إسلامي، وعملة موحدة، ومنظمة (يونيسكو إسلامية).
وقد تحقق جزء من أحلام أربكان، حين أصبحت تركيا تصنع السلاح وتصدره، وأصبح لها 10 قواعد عسكرية في الإقليم. كما تأسس اتحاد للدول الناطقة بالتركية، ضم 7 دول، بعدد سكان يبلغ 170 مليون نسمة. ورفع أردوغان شعار (العالم أكبر من خمسة)، مطالباً بزيادة عدد الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
ملامح تركيا الجديدة:
ولاستكمال بناء تركيا الجديدة، أعلن أردوغان حال فوزه بالانتخابات ملامح سياسته، في آخر فترة رئاسية له. ففي ضوء المؤامرات التي تتعرض لها تركيا، فإن أبرز أولوياته هي تحصين البلاد داخلياً، بترسيخ (الإستقرار والأمان)، والحفاظ على وجود الدولة وتماسكها، ووحدة المجتمع من الإنقسامات التي تسعى إليها (شبكات الفتنة والإرهاب)، وحماية الأسرة من (التيارات المنحرفة).
هدنة مع المعارضة الوطنية:
وربما تتطلب هذه المرحلة أن يهادن أردوغان المعارضة الوطنية المخلصة، غير المرتبطة بالخارج، كي تتفرغ الدولة لتحقيق أهدافها الكبرى في التغيير. وقد بدأ فعلاً بتوسيع قاعدة تحالفاته، حين ضم إليها حزب (هدى بار) الكردي، وحزب الرفاه الجديد، ثم مرشح حلف الأجداد سنان أوغان. وقد قربهم جميعاً إليه. فقد كلف فاتح أربكان، رئيس حزب الرفاه، أن ينوب عنه في فعالية انتخابية مهمة، عندما توعك صحياً. كما اصطحب سنان أوغان معه في أول زيارة خارجية له. وأكرم هؤلاء الحلفاء الجدد بصعودهم معه إلى المنصة، خلال خطاب الفوز.
قرن تركيا:
ومن بين أهداف أردوغان الكبرى جعل القرن الحادي والعشرين (قرن تركيا)، وصولاً بالبلاد إلى المرتبة رقم 10 بين اقتصاديات العالم، وتعزيز مكانتها على الساحة الدولية، من خلال (القوة الناعمة)، التي جعلت من تركيا (مثالاً يُحتذى)، (لا يمكن الاستغناء عنها عالمياً)، وأصبحت (دولة أكبر من حدودها الحالية)، كما يحلو لأردوغان أن يقول.
صعوبات الانتقال إلى الجمهورية الثانية:
ولا بد أن تعترض مسيرة الانتقال إلى (الجمهورية الثانية) صعوبات وعوائق. فقد تنبه أكبر حلفاء أردوغان، دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية، لخطورة وأهمية نقل البلاد إلى واقع جديد، وصرح بعد الانتخابات أن (أشياء كثيرة ستتغير في المرحلة القادمة، كل شيء سيتغير، نأمل أن لا تتغير تركيا نفسها). وقوله (نأمل أن لا) ربما يعبر عن مخاوف هذا السياسي المخضرم، أو يعبر عن تحفظاته، أو حتى معارضته، لهذه النقلة التاريخية الهادفة إلى أسلمة الدولة والمجتمع في تركيا.
خلاصة القول: الانتقال إلى جمهورية الثانية مرهونة بصدور دستور جديد:
ومن الواضح أن الانتقال إلى الجمهورية الثانية يتطلب إصدار دستور جديد للبلاد، يحتاج تمريره موافقة 360 نائباً في البرلمان، بنسبة 60%. ثم يتم طرحه في استفتاء شعبي. أما إذا حظي الدستور بموافقة 400 نائباً، من أصل 600 نائب، فلا يكون هناك حاجة للاستفتاء. وبما أن لدى تحالف الرئيس أردوغان 323 نائباً في البرلمان، فإنه يبدو أن طريق إقرار دستور جديد لن يكون مفروشاً بالورود.
لكن الأمل معقود على حنكة وتجربة أردوغان، ذلك السياسي النادر الذي حصل على التمكين والنصر، حتى صار يُضرب المثلُ بشخصيته ومهاراته في الحُكم، وفي التوفيق والنجاح الذي حالفه في تحقيق الإنجازات الكبرى لبلاده. فهو الذي نقلها إلى واقع جديد، وجعلها قوة بارزة يُحسب لها حساب، حتى صارت تركيا نداً لكبار اللاعبين على الساحة الدولية.
فهل يتم تجاوز معضلة إقرار الدستور الجديد؟ وهل يكمن الحل في اللمسة السحرية المعهودة لداهية الترك الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يتجاوز الصعاب في أحلك الظروف؟ فهل يفعلها هذه المرة أيضاً؟