يملكُ الأردن إرثًا حضاريًا موغلًا في القِدم، من بنيته مما تحتاجُه العروض الفنية الدرامية، وغيرها كالغنائية، والألعاب المُتميّزة كعروض التزلج على الجليد. وقد شاهدت في طفولتي بعضَها على مسرح المدرج الروماني في عمان، وتلا ذلك ببضع سنوات أداء فرق فنية مُختلفة عروضَها في جرش، وعلى المدرج الروماني أيضًا. وشاهدت حفلات غناء على مسرح مدرجها الأثري أيضًا.. ولكن للأسف تراجعت، بدلًا من تزايدها وتقدّمها، العروضُ الفنية التي يسهلها ويروّج لها سياحيًا كونها تؤدَّى على مسارح أثرية، وما يُمثله هذا من استعادة للتاريخ تصلُ فناني العصر الحديث بسابقيهم من عصور كانت قد ازدهرت فنيًا وأدبيًا.
ولافت أنَّ إرث المدرجات كان حضاريًا بدرجة لا يتوجب معها حتى تجديده، كون بنية المدرجات الرومانية حفظت مسارَ الصوت. وما يمكن إضافته لها هي زيادة توازي تقدم الوسائل السمعية الآن على جذورها المحدودة بعقود سنوية.. وليس على حالة عمرها الذي استدام لقرون.. ويعاد استحضاره بكبسة زر لهذا الإرث الحضاري الفني الذي يتمتع الأردن به في مَسرحَين كبيرَين في عمَّان وجرش. وما قام منه في عمان، بدءًا بنزول المُهاجرين الشراكسة، لدى أول هجرة جماعية لهم من قفقاسيا، على مدرج عمَّان واستعمال غرفه الصغيرة للمبيت إلى جانب العربات التي تجرها الخيول، كان أوَّل خُطوة لاستعادة هذا الإرث السياحي الحضاري بإحاطته سريعًا بمدينة حديثة هي عمَّان التي أقامها هؤلاء المُهاجرون، وتأهلت أكثر من بقية مدن الأردن لتكون عاصمة الحكم فيه لدى قدوم الملك عبدالله الأوَّل لها. ومثلها، ولكن بمعيار أقل، جاء نمو مدينة جرش التي قامت أيضًا على الإرث الروماني بسكن مهاجرين شراكسة آخرين فيها. ولافت أيضًا نجاعة توظيف الموروث الحضاري «الروماني» للبدء بإنشاء مدن حديثة في أرض كانت غدت شبه خالية من السكان.
والذي استوقفني بإعجاب كبير، واستحضر هذا التاريخ للذكر، قيامُ قطر بإنشاء ملاعب وساحات عروض درامية فنية ستلي حتمًا استضافة مُباريات كأس العالم، وعلى طريقة ذات المسارح الرومانية بتجسير ذي دلائل مُتقدمة، أشبه بعمليات إنعاش للتاريخ القديم المألوف على مسارح رياضية الآن، ولكن حتمًا ستكون فنية في عروض آتية. والأهم من هذا كله أن اجتماع عديد عرب قدِموا من كافة دول العالم العربي ومن بلاد مهجر أخرى، سييممون وجوههم شطر قطر في بنيتها الحضارية التي فاجأت العالم بدرجة تقدّمها مدعمة بنكهة عربية.
إذا كانت «العولمة» مرفوضةً من الكثيرين باعتبارها تمسُّ الهُوية الوطنية والقومية، فإنَّ ما جرى في قطر جمع بنجاح خير ما توفره العولمة لأهم ما يُقدّمه الإرث الحضاري الخاص بنا كعرب ومُسلمين. فالتاريخ لا ينتهي، بل هو يتوالدُ كالكائن الحي.
"صحيفة الراية القطرية"