(روسيا لغز ملفوف بلغز محاط بالألغاز) هذا الكلام المنسوب لتشرشل، اصدق تعبير توصف به الأمة الروسية، لم تتوقف هذه الألغاز عند القضايا المصيرية والاستراتيجية والثقافية، بل طالت الأشخاص والقادة الروس وقبلهم السوفييت، فشخصية الرئيس بوتين لغز محير في حد ذاته، ويطال الغموض الكثير ممن يحيطون به، وأصدق مثال عليهم يفغيني بريغوجين قائد قوات فاغنر، لقد صعد هذا الرجل من سجين الى بائع نقانق، ومن ثم إلى صاحب سلسلة مطاعم كبيرة إلى متعاقد كبير مع الجيش ومنه إلى صاحب قوة عسكرية منتشرة في كل أصقاع العالم، ويتدخل في صراعات عديدة في أفريقيا وأسيا ودول عربية، وأصبحت واحدة من أدوات روسيا الخارجية المهمة، لكنها مع ذلك احتفظت بمسافة آمنة للتنصل من أفعالها الشائنة عندما يقتضي الأمر، إلى أن جاءت اللحظة الأوكرانية عندما غزت روسيا أراضي هذه الدولة، وأدخلت فاغنر وبريغوجين في صلب المعركة هناك.
أطلقت انتصارات فاغنر الطموح السياسي للرجل من قمقمه فأغضب ذلك البيروقراطية العسكرية التي رأت أن من واجبها إيقاف ذلك الخطر الذي يهددها، فباشرت بحصاره وقطع التمويل عنه أو على الأقل إنقاصه إلى الحدود الدنيا كانت غايتها على ما يبدوا جعله يعود ضعيفاً وغير قادر على المقارعة السياسية وأيضاً مقارعة الجيش وقتل طموحاته في مهدها، أدرك الرجل ذلك ولم يستسلم وبدأ بالهجوم على الجيش وجعل قادته هدفاً لسهام كلامه، تطور هذا الأمر لاستخدام القوة الخشنة ضده وهذا أثار غضبه وجعله يخرج عن طوره، لكن النقطة الأكثر مفصلية عندما طلبت القيادة العسكرية من جميع منتسبي فاغنر التعاقد مباشرة مع قيادة الجيش، كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر بعير العلاقة بين فاغنر والجيش، فبدأ الهجوم في كل الاتجاهات ووصل به الأمر الى الطعن بشرعية الحرب نفسها وتوج نفسه محارباً ضد الأقلية العسكرية المسيطرة ومدافعاً عن العدل، وتحت هذا الشعار انطلق الى موسكو يريد رأس القيادة العسكرية وربما ما هو أكثر من ذلك في محاولة لإنقاذ نفسه.
قطع في رحلته إلى موسكو 800 كيلو ولم يتبق أمامه سوى 200 كم لم يواجه بأي قوة عسكرية ذات شأن وبسهولة تامة كاد يصل إلى موسكو، والسؤال اللغز هل كانت تلك السهولة خطة من بوتين والقيادة العسكرية أم أن الأمور كانت خارج السيطرة فعلا ؟ وما يثير الشهية للتساؤل هو الصفقة السريعة التي وقعت بدون إراقة نقطة دم، وهذه هي النقطة التي تحاجج بها القيادة الروسية والتي تريد أن تحقق مكتسبات باستخدامها، لكن هل هذه هي الحقيقة أم أن في الأكمة ما ورائها، في دولة يُعتبر الجيش أهم مصادر شرعيتها ترضى بأن يُذل بهذه الطريقة وهو الجيش العظيم، لا يبدو أن قطرات الدم تفسر ذلك، هل أن الجيش غير قادر فعلاً على حسم الموقف بسحق قوة كانت في العراء لمسافة 800 كم أم أن جهة ما تدخلت لمنع ذلك ؟
لا يبدو ان التمرد فقط هو الذي يدخل في حسم الموقف، فالمفاتيح السرية لحضور روسيا الدولي موجودة في حوزة بريغوجين وبالتالي من المبكر إعلان نهاية الرجل قبل إيجاد تسوية معقولة لتلك الملفات، ويبدو أن زعيم فاغنر فهم اللعبة ووافق على الصفقة أملاً في أن تشكل الملفات الخارجية ورقته القوية للعودة من جديد، وإن كان الشك يحوم حول إمكانية نجاحه بالذات بعد أن شكك في حرب بوتين المقدسة على أوكرانيا وربما شكك ببوتين نفسه وبعد دخوله المظفر لمقر القيادة الروسية في مدينة روستوف، لا شك ان مصير بريغوجين وقواته الموالية له تدخل أيضاً في حلبة الألغاز المستقبلية.
هذه أولى التداعيات الداخلية للحرب على أوكرانيا ولا يبدو انها ستتوقف هنا فهي ستطال رموزا عسكرية ومدنية، لكن هل ستطال الرئيس بوتين نفسه، هذه إحدى الألغاز التي ترتهن بنتيجة الحرب على أوكرانيا وهذا يعيدنا من جديد إلى تشرتشل ومقولته الصارمة حول روسيا بلد الألغاز.
(الغد)