في زمن لم تبرحه المشاعر بعد، وما يفتئ يعلق في الذاكرة، ويعود الى ثمانينيات القرن الماضي ، وحيث لم يزل في خاطري رائحة البيدر، وكيف كنا نركض صغاراً حول تلال صغيرة من القش تغطي مساحات من ارض يابسة يجمع عليها الحصادون ما تحمله ظهور الحمير، ويتم تفريقه على البيادر بعد أن تكون "المناجل" قد حولت السنابل الصفراء إلى كتل متفاوتة من القش تسمى "الغمور" ، يتم نقلها على التوالي على البهائم إلى حيث سيتم درسها بواسطة مجموعة من الحمير يقودها "اللواح" ، وهو الحمار الأكثر نشاطاً، والأكثر تعرضاً لضرب الدراسيين. وتظل البهائم تلف في ساحة البيدر حتى "تطيب الطرحة" ، وتصبح ناعمة تحت حوافر "الحمير".
وما زلت اذكر طعم الليالي المقمرة التي ينتهز فيها الفلاحون الفرصة لتذرية البيادر فيعرضونها بواسطة المذراة اليدوية إلى تيارات هوائية تتسبب بفصل القمح أو الشعير عن مادة التبن، ثم يتم تعبئة المحصول في "الشوالات" ، ونقله مرة أخرى ليصار إلى خزنه في "المغر"، أو في البيوت الحجرية القديمة.
اذكر الصاع الخليلي، وهو الأول في البيدر، وكان من حصتنا نحن الصغار فنقوم ببيعه وشراء بعض ما تجود به دكاكين تلك الأيام التي لا يزيد ما يخص الأطفال فيها عن بعض البسكويت، والراحة، وقليل من السكاكر.
وكطيف جميل في الذاكرة تراودني جاروشة الحاج عبد الهادي الضخمة، وكان يطلق عليها اسم "البابور" حيث يتم طحن القمح، وتحويله إلى مادة ناعمة تستعمل في صنع الخبز، وكنا نجمع الحطب لتوقد الأمهات النار، وترمي بأيد ماهرة رقائق العجين على "الصاج"، فتنطلق رائحة الشراك الأخاذة من خلال البيوت المتقاربة، والتي كانت لا تزيد في معظمها عن غرفتين وحمام صغير منفصل يسمى "الخارج".
بعض البيوت كانت من الطين الخالص، وبعضها من الحجارة القديمة، ومنها ما تتكون من غرفة واحدة او اثنتين من الطوب والاسمنت، وكانت البيوت تضاء "بلمبات الكاز" الصغيرة فتترك خيالات تتراقص في المساءات تنعكس عن ذبالتها التي تستجيب لسطوة الهواء صعوداً ونزولاً.
وأما البيوت الأكثر رقياً فكانت تضاء "باللوكس" الذي تستخدم في إشعاله جرار الغاز، وكانت هذه الوسيلة في الإضاءة - الأكثر كلفة - لا تتوفر سوى في بيوت بعض الميسورين حيث يتجمع الرجال ليلاً ليمضوا الساعات الطوال في أحاديث شجية تخترق الماضي، وتستحضر السير العطرة لأجداد مضوا محملين بالأحداث، وتركوا قصصاً يتداولها الناس بشغف وانشداه.
ولم تكن "مليح" التي لم تعرف طعم الكهرباء بعد تملك سوى تلفزيون، أو اثنين يتم تشغيلهما على البطاريات، فيحدث أن يستقطب هذان التلفزيونان معظم سكان القرية لحضور مسلسل بدوي يعرض بالأسود والأبيض، وتصبح ساعة بث المسلسل، ونشرة أخبار الثامنة من أهم الأحداث في حياة قاطني القرية الذين يتوزع كثير منهم على هذين التلفزيونين.
كنا نجلس كصغار القرفصاء خلف الحضور، وعلى مسافة بعيدة خوفاً من أن نتعرض للطرد لنشاهد مسلسل وضحا وابن عجلان.
مقتنيات البيوت كانت متواضعة لا يوجد في اغلبها من أدوات الكهرباء سوى الراديو، وكانت "الجرة" أداة تبريد الماء الوحيدة ، واذكر مليا كيف كانت النساء ترد إلى "بير مليح" لإحضار الماء محمولاً على حمار ترشح "الراوية" من على جنباته، وتبلله عن اليمين وعن الشمال، وتطور الحال، واخذ سكان القرية يحفرون الآبار فتملأ عن طريق صهاريج مياه قديمة تجر بواسطة مياكين الحراثة، ويتم "نشل" الماء "بالدلو" يومياً ليستخدم في احتياجات البيوت.
اذكر أن الدلو كان يخرج الماء ممزوجاً "بالعلق" الذي يطفو على سطحه، وهي كائنات دودية سريعة الحركة، وكان والدي - رحمه الله- يضع شماغه على فوهة الدلو ، ويشرب الماء، واشرب معه رغم وجود "العلق" الذي يتم تصفيته بواسطة مسامات الشماغ الأحمر.
وكان أثاث البيوت بسيطاً ، فلم تكن "الكنبات" قد ظهرت بعد، والغرفتان تنقسمان تلقائياً إلى واحدة تستخدم منامة للعائلة جميعها، والأخرى يتم فرشها "بفرشات ومخدات صوفية" للضيوف.
وتفتقر البيوت للمطابخ ، وان وجدت فلا يتعدى أثاثها "النملية" فتخبئ بها الأطعمة خوفا من ان يصل إليها النمل، وابرز أثاث تلك الأيام كان "بابور الكاز" الذي لم يزل في خاطري صوت هديره ، وخاصة في ليالي الشتاء الممطرة، وكانت تقوم عليه أهم احتياجات العائلة فبواسطة ناره الزرقاء يتم الطبخ، وعمل الشاي الذي لا ينقطع ليلاً أو نهاراً، وكان يتم معالجة استمرار انطفاء البابور بواسطة "نكشه" بإبرة صغيرة تكون ملحقة به، وتعمل على تنظيف رأسه من الانسداد ليعاود اشتعاله مرة أخرى.
ومما يعلق في ذاكرتي صحن كبير كان يستخدم للاستحمام المنزلي ، ولم يكن احد يملك غرفا خشبية للنوم، أو للضيوف، ولا يتوفر من أدوات التنظيف سوى "السيرف" والصابونة النابلسية .
كانت الصباحات البيضاء تعلن بدايتها مع أضواء الشمس الأولى أصوات متداخلة للقطعان، وهي تغادر "الاحواش" ، والزرائب باتجاه الجبال المحيطة لتحصل على الرعي، وتخلف وراءها طناجر كبيرة مملوءة بالحليب، وقد تسللت الأمهات في ساعات الفجر الأولى، وحلبن المواشي، وخبزنا "الشراك"، وعندما توقظنا أشعة الشمس يكون الحليب قد تم غليه مع الزعتر لنحصل على أكواب، وكاسات بيضاء تروي عطش الروح .
ثم تشرع الأمهات بتفريغ الحليب في "طاسات" خصصت لهذه الغاية، ويترك حتى يتحول إلى "رايب"، ويتم تفريغ لبن الليلة الماضية في جلود يسمى احدها "السعن"، وتبدأ عملية خض لهذا السائل تستمر لساعات حتى ينفصل اللبن عن الزبدة، ثم توزع مشتقات هذه العملية على الأواني المخصصة لها.
وترى حول البيوت تجمعات لكرات بيضاء دائرية تعد بالمئات يتم وضعها على أواني حديدية واسعة تسمى "الجميد"، وهو ما سيتم بيعه بعد ذلك مع الزبدة والسمن المستخلص من "القشدة" بسوق مادبا فينقل بالشوالات، ويباع كل أسبوع أو أسبوعين مرة.
كنا نشرب من مياه الابار ، ولم يكن هنالك ماء مقطر للشرب، ولا كهرباء، ولا تليفونات خلوية، وكانت المدارس متواضعة في ابنيتها، وكنا فيها عرضة للضرب، والتقريع ، ولم نكن نستطيع أن نشكو للأهل كي لا يقوم الوالد بدوره بإكمال المهمة، وتعريضنا إلى مزيد من الضرب، والشتائم انتصاراً للمعلم.
ولم نكن نأخذ مصروفاً البتة، وإنما ننتظر "الفرصة" بفارغ الصبر كي توزع علينا الإدارة قطعة من الخبز والجبن، وكأسا من الحليب الذي يتم إحضاره إلى المدرسة بأكياس كبيرة تشبه "شوالات الاسمنت".
وبالنسبة لملابسنا فكانت تتحقق في العام مرة للبعض المدلل، وللكثيرين مرة كل عدة أعوام.
كنا نتمشى على إيقاع أضواء النجوم ونحدثها عن أحلامنا ، وتطلعاتنا ، ونغفو أخيرا في عين الوطن الأعلى والاغلى.
وكانت العتمة تشيع الهدوء في كل أنحاء القرية الوادعة. وكانت بيوتنا بلا "قصارة" على الأغلب، والأبواب والشبابيك من زجاج رخيص، ولم تكن هنالك مراوح في الصيف، وفي الشتاء كانت صوبة "البواري" القاسم المشترك بين معظم بيوت القرية، والبعض الفقير راح يستخدم "بابور الكاز" في التدفئة أيضا.
وكانت القرية تفتقد المواصلات فلا يقوم بهذه المهمة سوى باص واحد على الخط، من ابرز مميزاته أن بابه يغلق بواسطة "حبل" ، وكان يتم تحميله بشوالات الطحين، وفي أحيان أخرى يتم وضع رأس أو رأسين من الغنم في مؤخرة الحافلة، ناهيك عن الدجاج والحمام وسلال البيض.
ولا اذكر أن بيتاً كان يخلو من "خم" وترى الدجاج البلدي من مختلف الأنواع في كل الانحاء، ولا يكف عن الصياح، وأصواته تملأ الحارات والأزقة، و في موسم التفقيص يمكن مشاهدة الصيصان بالمئات بين كل عدة بيوت، وعندما تختلط عدة دجاجات بصيصانها مع بعضها البعض يصبح فك الاشتباك عسيراً بدون أن يضيع صوص هنا أو هناك.
ومن المشاهد التي كانت مألوفة عندما يحلق طائر جارح في السماء يسمى "الحدية" فوق القرية، وتأخذ أسراب الدجاج بالهروب إلى اخمامها لأن هذا الطائر سرعان ما أن ينقض، ويسرق صوصاً من أمه، وذلك أمام مرأى الجميع، وعبثاً تروح محاولات البعض التصدي له بالحجارة لإخافته إذ غالباً ما كان يهبط إلى الأرض، ويرتفع إلى السماء ، وهو يحمل بمنقاره أو بين مخالب قدميه صوصاً مستسلماً فقدته دجاجة، وراحت تصيح من خلفه.
وكان "الحصيني" أيضا يهاجم اخمام القرية ليلاً ، و"ينتف ريش" الدجاج، ويتركه على أبوابها كدليل صارخ على خرقة حرمة الاخمام، ويستولي على دجاجة أو اثنتين، ويذهب هدراً في ظلمة الليالي الضجيج الذي يحدثه الدجاج طلباً للنجدة، ويختفي في بحر من الصمت الذي يلف القرية بطور من الوداعة والسكون.
أما الأعراس فكان النقود المعتد فيها لا يزيد عن "رطل" من السكر يحمله المعزوم بيديه، ويتم تفريغه في شوالات معدة لهذا الغرض تنتصب إلى جانب واسط بيت الشعر الذي تجري فيه المناسبة، وهناك تشتعل دبكة يدخل فيها الحضور على التوالي.
و لاحضار العروس تتحرك الفاردة التي تتكون من سيارة واحدة غالبا وتزين بأغصان بعض الأشجار الحرجية، وبقية المشاركين فيها يسيرون مشياً على الأقدام، وعندما يظلم المساء يحمل احدهم في مقدمة "الفاردة" لوكساً يدوياً ليدلها على الطريق حتى تصل إلى بيت العروس.
وتتعرض الفاردة أثناء سيرها إلى عزومات بروتوكولية تقابل بالرفض حتى يكتمل مشهد العرس القروي.
لا شك اننا كنا شهود مرحلتين ، وعشنا بين زمنين، فشهدنا نهاية مرحلة وولادة مرحلة جديدة في الاردن، والتي خرج الانسان الأردني فيها - من رحم المعاناة - متسلحا بالوعي، والمعرفة، والإرادة، والعزيمة، وبني صروح الأردن الحديث.