يعتبر كيسنجر معْلَما متجدداً في تاريخ السياسة العالمية، ومدرسة في السياسة الأمريكية يشد القارئ بأسلوبه وعمق تحليلاته ونظرياته والتي ضمّنها مذكراته، والدبلوماسية بشكل خاص، وغيرها من كتبه، وأخيراً كتابع الصادر عام (2022) بعنوان: (القيادة: 6 ست دراسات في الاستراتيجيات العالمية).
وبعيداً عن موافقة السياسية التي تمثل نموذج السياسي الأمريكي الذي يضع المصلحة الأمريكية أولا في مختلف القضايا والأحداث الدولية والإقليمية وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، فكتابه الأخير آنف الذكر يمثل دراسات أكاديمية في القيادة والاستراتيجيات العالمية لستة من القيادات العالمية، ويرى القادة العالميين المبدعين هم الذين يتصرفون وفق محوريْن:
الأول: محور الربط ما بين الماضي والمستقبل، والثاني محور الربط ما بين المنظومة القيمية والطموحات الكبرى، فهم بمثابة المربين الذين يصوغون أهداف المجتمع عبر فريق ديناميكي يتفهم رؤيتهم كما يتفهم التاريخ كما ورد عن تشرتشل: (أدرسوا التاريخ ففيه تكمن كنه أو جوهر السياسات، فمن يصنع القادة هو التاريخ).
ومن هذا المفهوم التاريخي وصُنع القادة فقد أعتبر ستة قادة عالميين من صُناع التاريخ:
-أديناور: استراتيجية التواضع الذي أعاد بناء المانيا على أسس قيمية أخلاقية ديموقراطية.
-ديغول: استراتيجية الإرادة الذي أعاد بناء فرنسا من الهزيمة إلى دولة ذات قيم ومبادئ تسهم في قيادة العالم.
-نيكسون: استراتيجية التوازن العالمي الذي أسس لنظام عالمي وقاد السياسة الأمريكية على قاعدة التوازن العالمي.
-السادات: استراتيجية التعالي، الذي استعاد الأرض المصرية معتمداً منهج المزج بين النهج العسكري والنهج الدبلوماسي، وكان الباعث لاتفاقات متعددة في المنطقة.
-لي كوان يو: استراتيجية التميّز، الذي جعل من دولة المدنية الواحدة، سنغافورة، قوة آمنة بإدارة عالية وهُوية موحَّدة.
-تاتشر: استراتيجية الاعتقاد التي ورثت إمبراطورية فقدت مكانتها، فأعادتها قوة اقتصادية سياسية تجمع بين الجرأة والتعقّل.
ويرى كيسنجر أن القادة ليسوا فلاسفة رؤية بل هم فلاسفة إدارة، ومن خلال الأزمات تتولّد القيادات الإبداعية التي تقود الدولة بمنهجية التعيير والتقدم.
هذه ملامح لهذا الكتاب الذي خرج به كيسنجر مع بلوغه المائة عام، قد تتفق معه أو تختلف، ولكنه كتاب زاخر بالتحليل والرؤية التاريخية السياسية في إطار أكاديمي أقدمه بحيادية تامة.