قبل أيام رافقت عددا من أفراد عائلتي في رحلة غير مخطط لها الى دمشق، وامضينا في سورية بضعة ايام، طفنا في مرابعها وزرنا عددا من معالمها وتجولنا في شوارعها العتيقة وتوقفنا عند الجامع الاموي المبهر، وتعرفنا على أوضاع أهلها بعد المحنة واحببنا كل ما فيها فلم نشعر بغربة ولا بعد بل احسسنا وكأننا عدنا الى بيتنا واهلنا.
لمدينة دمشق سحر يوقظ في النفس شعورا لا تحسب انه حيا بعد كل ما تعرضت له الامة من تجزئة وشرذمة وتنكيل.
ففي هذه المدينة الأقدم بين حواضر الكون تشعر بجلال التاريخ ورائحة العز والكرامة التي ارساها الأوائل من بني امية يوم كان العالم القديم يأتمر باملاءاتهم وتكاد ان ترى جرير ينشد في مجلس عبدالملك بن مروان والفرزدق يناكفه وعمر بن ربيعة يلحق بالحجاج بن يوسف الثقفي..
نعم في هذا الحمى العربي المزنر بالجبال بقايا من بذخ الوليد وهشام وحكمة معاوية وورع عمر بن عبدالعزيز وهناك شيء من عذوبة بردى ومن روائح الياسمين.. في دمشق لا تزال أصداء اصوات الخلفاء الذين اعتلوا منابر الجامع الاموي مخزنة في ارجاء الجامع الفسيح.
ولا يزال صوت حوافر الخيل المسرجة لاستكمال الفتوحات وبسط الهيبة على الامصار يدور في فضاء المدينة ممتزجا باصوات اغاني الفرح بعودة الجند من الميادين البعيدة.
إرث التاريخ وذاكرة المكان يسحر القلوب ويأسر الألباب لدرجة تدفعك للاستسلام وتشعر انك في أحضان بلد الأجداد قبل أن يفرض عليها الغزاة التقسيم ويلبسون أهلها هويات تبدد وحدتهم وتضلل شعورهم وترمي الى أحداث القطيعة مع الماضي.
لا تحتاج للكثير من العناء لتدرك المعاني التي حملتها الأشعار والقصص والروايات ولا تحتاج إلى معجم لتفسير المعاني وتخيل الصور الشعرية التي شدت بها أيقونة الغناء العربي فيروز هنا في دمشق تشعر برائحة المجد وتدرك ما قاله الشاعر اللبناني سعيد عقل في قصيدته سأليني يا شآم
ظمئَ الشَّرقُ فيا شامُ اسكُبي
واملأي الكأسَ لهُ حتّى الجَمَامْ
أهلكِ التّاريخُ من فُضْلَتِهم
ذِكرُهم في عُروةِ الدَّهرِ وِسَامْ
أمَويُّونَ، فإنْ ضِقْتِ بهم
ألحقوا الدُنيا بِبُستانِ هِشَامْ....
التواضع الجم واللقاء الدافئ الذي يستقبلك به اهل الشام يشعرك بانهم اهل بيوت العروبة وفي اللطف الطافح يسكن جذر الضيافة العربية واصولها..
نعم في الشام تعب ومعاناة وضيق.. لكن الأخلاق العربية الأصيلة حاضرة.. تحية للشام وأهلها.. ورفع الله عنهم الكرب وجنبها الشرور.