منذ ان عاد رفاعة الطهطاوي من باريس عام 1831 ، والنخب العربية منشغلة في سؤال لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ؟! الى ان اضافت استاذة اردنية من تأملاتها بشعائر عيد الأضحى ، جوابا آخر لسجل الاجوبة العربية المتراكمة ، يتركز على طريقة ذبح الاضاحي في العيد كمظهر او سبب للتخلف ، ولم تختلف هذه الأستاذة في طرحها ، عن ملاحظات قديمة للممثلة الفرنسية بريجيت باردو ، الا من حيث أصالة الطرح وجدية الالتزام ، فالسيدة باردو كانت ملتزمة جديا بالدفاع عن حقوق الحيوان ومعروف عنها أنها تحولت إلى انسانة نباتية فعلا ، وقادت كفاحا حقيقيا من اجل هذه القضية ، ولم تقتصر حملاتها ضد شعائر المسلمين دون غيرهم ، وقد تحملت جراء ذلك عقوبات كثيرة في بلادها بسبب ادانتها بالتحريض على الكراهية.
اما الاستاذة الاردنية ، فلم يؤكد احد بأنها انسانة نباتية ، ولم يعرف عنها عزوفها عن تناول الوجبات اللاحمة ، ولم يؤكد اي شخص ان لها نشاطا بارزا في مجالات الرفق بالحيوان ، او الرفق باصحاب الحاجات من الناس ، كالرفق بمرضى المستشفيات العمومية ، او التعاطف مع ضحايا حوادث الطرق المتكررة ، او التضامن مع من تضيع مواعيدهم عبر تحويلات الباص السريع ، او مع من تضيع اوقاتهم في قاعات الانتظار في دوائر الحكومة لانهاء معاملات روتينية ، وهذه المسائل على سبيل المثال ، تعتبر قضايا ذات اولوية على ما سواها ، وسيكون من غير المنطقي ان يتراجع العقل الاردني الذي ينتدب نفسه للقضايا العامة ، للتفكير في مسائل ثانوية ، ولدى مجتمعه وناسه ما لا يعد ولا يحصى من القضايا الاساسية الأكثر اهمية وحساسية.
وتلك هي بالضبط ازمة أولئك الذين يتوهمون أنهم فهموا الحداثة الغربية لمجرد أنهم يحملون شهادات من دول غربية ، بات معروفا ان بعضهم لا يتقن لغاتها ، ومع الاعتراف بوجود استثناءات قليلة نعرفها من كتبها غالية الثمن ، فإن معظم هؤلاء هم مجرد ادعياء حداثة وادعياء علمانية وادعياء ليبرالية ، ويظنون ان التحديث عملية سهلة يمكن انجازها بقرار تصدره أية حكومة بلهاء ، بل ان الحداثة عندهم لا تتجاوز حالة الادعاء الشكلاني واعلان انفصالهم عن شعوبهم وقيمها وتشبيه معارضيهم أحيانا بنوع معين من الحيوانات للحط من قدرهم.
وبينما اتقن الرائد الأول رفاعة الطهطاوي اللغة الفرنسية ببضع سنوات وترجم عن الفرنسية عددا من الكتب العلمية المهمة ، فان معظم ادعياء التحديث لاحقا ، فشلوا في إتقان اية لغة حتى لغتهم الام ، وعجزوا عن ترجمة اي كتاب للغة العربية ، حتى يمكن القول ان احد اسباب تأخرنا عن الغرب هو النقص الحاد في الترجمة من اللغات الاخرى الى اللغة العربية خاصة في مجال الابحاث العلمية والكتب التي تصدر يوميا في العالم المتقدم ، فلا خريجو الغرب تطوعوا لهذا العمل المتعب ولا خزائن المال العربي انفقت شيئا يذكر في هذا المجال ، واكتفى ادعياء التحديث منذ عشرات السنين بشتم الابل والعرب والعروبة كل يوم على طريقة نزار قباني الذي لم يجد ناقدا واحدا يكشف عن حجم التكرار والاجترار في اشعاره ، حتى راح يغطي على توقفه عن التجديد وابتكار الصور الشعرية ، بمزيد من التكرار التعسفي لصورتي النهد والقمر المتكررتين في الشعر العربي الف مرة ومرة.
لاشي غير الادعاء ، عند كل هؤلاء الادعياء الذين ابتلينا بهم في سائر بلداننا العربية ، هؤلاء الذين تضخموا في غياب النقد والمساءلة والملاحقة ، وبدلا من ان يبذلوا الجهد اللازم لفهم حقيقة الحداثة ومعناها وجوهرها ، استسهلوا التوقف عند شكلها الظاهر ومنظرها المدهش ، عاجزين كما يبدو عن الاطلاع على محتواها وفهم فكرها وفلسفتها وقراءة مضامين ابداعاتها حتى في مجال الموضة والصناعات الخفيفة ، ولا نجد في طروحات هؤلاء اي ذكر لحجم التضحيات الكبرى والصراعات المريرة التي تحملتها الشعوب الاوروبية حتى وصلت الى هذا المستوى من التقدم المرغوب فيه ، ولا نجد عندهم اي شرح لأي موضوع مملوء بالمعنى في الفكر الغربي الحديث ، مكتفين بما خف من ملاحظات سطحية للإيهام بأنهم تقدميون وحداثيون وليبراليون ، والحداثة طبعا ليست هدية من السماء للغرب ، فقد ضحى الاف الفلاسفة والمفكرين والشعراء والعلماء الاوربيون باعمارهم وارزاقهم بشكل متواصل ، منذ عدة قرون ، من اجل نهضة مجتمعاتهم وبلدانهم ، وقدمت شعوب اوروبا ملايين الضحايا ، من اجل الحرية وهزيمة النازية والفاشية والظلم والاستبداد والطغيان ، ومن اجل فتح ابواب التقدم على مصاريعها في كل مجال وعلى كل صعيد ، فلا حداثة ولا تقدم ولا رقي ولا حرية بالمجان او بناء على رغبة الزبائن ، فالتقدم لا يتحقق بادعاء التقدم ، ولا النصر يتحقق باستحداث اسماء تلطيفية للهزيمة والانكسار ، ولا احد يرتقي لمجرد انه يرغب او يدعي .
لم يعد يستحق الاحترام ، كل طرح يتجاهل او يجهل حقيقة الازمة الكبرى التي تعاني منها شعوبنا التي لا تزال تعاني من ويلات التجريب الاعمى على ايدي نخب واهمة ومستعلية على ذاتها الوطنية ، نخب اسرفت كثيرا وطويلا ولا تزال تسرف في اكاذيب التقدم والتحضر والتحديث والتحرر ، نخب استهانت بمصائر الناس وانظمتهم الثقافية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية والسياسية ، فكانت كل النتائج ، تقريبا ، تخريبا للموجودات والاصول المادية والروحية ، وعبثا واستنزافا عشوائيا وضارا بأنظمة الفطرة والطبيعة ، وهدرا للطاقات البشرية ، وتعطيلا خانقا للروح الانسانية ، من دون تحقيق اي هدف من الاهداف الموعود بتحقيقها.
لقد اشعل الطهطاوي شرارة الاسئلة الكبرى في العالم العربي منذ زمن بعيد ، لكن تلك الشرارة ستبهت شعلتها منذ ان بات جدل التحديث والتقدم يتركز على الحجاب وذبح الاضاحي ، او منذ ان انتشرت عمليات شراء ابداعات الحداثة المادية واستعارة شكلانياتها ، حتى تحولنا الى مجرد سوق ، تتنافس علينا كزبائن شرهين كل شركات العالم ومنصاته التصديرية.
وبكل تأكيد ، لم يكن ممكنا ان نشتري برامج الانتاج الصناعي والفكري والعلمي والقيمي الاكثر عمقا ونفعا وديمومة ، لانها ببساطة لا تباع وتحميها حقوق الملكية الفكرية ، فكان ان توسع هذا الاختلال الفاضح في حياتنا بين تحديث مظهري شكلاني وتخلف فكري وعلمي وحضاري وقيمي ومعياري ، وبانتظار ان تشق صفوفنا نخب جديدة مؤمنة بربها ومجتمعاتها وقضاياها الحقيقية ذات الأولوية ، سيظل السؤال الاول مطروحا ، لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا ؟!