بين وطنين وفلسطين الصغيرة
د. منذر الحوارات
20-06-2023 12:18 AM
يوفر الغرب عموما والولايات المتحدة فرصة كبيرة لذوبان الشعوب المهاجرة إليه، فبريق الحياة هناك يسرق الأبصار ويجذب القادم الجديد كي ينغمس بعيدا عن نمط حياته المعتادة، لكن هذا لا ينطبق على الجميع فليس كل الشعوب قادرة على التحلل من ماضيها والقيام بعملية خلع إرادي لموروثها الثقافي والوطني والشعب الفلسطيني واحد من تلك الشعوب، حيث ما زال وغالبا سيبقى يمارس بشكل ممنهج رفض الانسلاخ عن هويته وإن كان يمارس ببراعة عملية الانصهار في المجتمعات التي يهاجر إليها، وهذا ما تثبته قصتي مع عائلة فلسطينية في مدينة شيكاغو الأميركية .
باسل أبو هلال وزوجته نجاح موسى مهاجران فلسطينيان الى شيكاغو تعود أصولهما الى قرية ترمسعيا التابعة لمحافظة رام الله والبيرة في فلسطين حيث الهجرة واحدة من وسائل البقاء، وهذا قد يفاجئ البعض ويثير التساؤل كيف يمكن أن تكون الهجرة واحدة من وسائل الثبات على الأرض ؟ باختصار؛ لأن هؤلاء المهاجرين يقومون برفد الباقيين من المال الذي يعينهم على مواجهة إجراءات الاحتلال التفقيرية .
أول ما لمسته من محمد أثناء استقباله لنا في المطار كم هو متمسك بالطقوس الفلسطينية في استقبال الضيوف، فقد أصر على دعوتنا للطعام ولأن منزله بعيد كانت الدعوة لأحد المطاعم حيث زوجته السيدة نجاح في انتظارنا وقابلتنا هي الأخرى بعاصفة من الترحيب، وعندما تمت دعوتنا مرة أخرى الى منزل هذه الأسرة المميزة لتناول طعام الغداء في منزلهما على أطراف مدينة شيكاغو، كانت دهشتي لا حدود لها عندما وجدت أن معزبنا باسل يعبر بطريقته الخاصة عن محبته لفلسطين وأميريكا معا حيث قام بنصب علم أميريكا وعلم فلسطين على سارية واحدة عند مدخل منزله، أدهشتني هذه اللفتة، وفي هذه المرة أيضا حظيت أنا وزميلتي دانا نشواني باستقبال قل نظيره .
أشاحت وجبة الغداء عن حجم الامتزاج الثقافي لكن مع الإبقاء على الهيكل الأساسي فلسطينيا فالطبق الرئيسي كان المقلوبة الفلسطينية، بينما الأطباق الثانوية استقت بعض ملامحها من المحيط فصحن السلطة أخذ بعض محتوياته من اللاتين والدجاج المحمر أخذ نكهته من الأميركان وكأن الوجبة هناك مصرة على نسقها الفلسطيني مع السماح ببعض الإضافات الثانوية، أما السيدة نجاح فهي منخرطة تماما في الثقافة الأميركية فهي تتحدث بطريقة مذهلة باللكنة الأميركية ولكنها تحافظ في نفس الوقت على لهجتها الفلسطينية الأصيلة دون أي رتوش تمدينية، أما الصغار زياد وليلى فيجيدون الإنجليزية والعربية بطلاقة وعليهم زيارة فلسطين سنويا للاستقاء من منهل عاداتها والحفاظ على نمط الحياة والثقافة الفلسطينية طبعا يمتلك باسل منزله الخاص في ترمسعيا، هذه المصالحة بين ثقافتين بهذه الطريقة العجيبة تثير الدهشة والإعجاب، بشكل يدحض تماما فكرة أن الحضارات تتصارع، بل هي هنا تتكامل و تتمازج وهذه العائلة تثبت ذلك .
لم يتوقف المشهد هنا بل أخبرني باسل أن عائلته ليست سوى جزء من منظومة أكبر، هو عبارة عن حي بأكمله يشبه فلسطين بكل تفاصيلها اسمlittle Palestine، ونصحنا بالتجول فيه وهذا ما قمنا به وما أذهلني هو حجم التشابه بين هذا الحي، وأي قرية أو مدينة فلسطينية، المطاعم المخابز اللغة وحديث الناس حتى المسجد نسخة طبق الأصل عن المسجد الأقصى، شيء يجعلك تشعر بأنك لم تغادر فلسطين بل أنت في قلبها، خرجت من المكان مستغرقا في التفاؤل بأن الفلسطينيين قطعوا الشوط أسرع بكثير مما هو متوقع، فهم منخرطين في مجتمعاتهم الجديدة وبدأوا بصناعة ذهنية ضاغطة داخل المجتمع الأميركي ومقبولة لدى الأميركان وغير مرفوضة أو مستهجنة، ولا أشك أنه خلال عقد أو أقل من الزمن سيكون لهذا الوجود تأثيره الضاغط الكبير ربما ليس مشابه لما تمتلكه الحركة الصهيونية لكن على الأقل قادرا على تقديم الرواية الفلسطينية بطريقة مفهومة ومؤثرة أكثر في المجتمع الأميركي .
ما سبق يؤكد أن باسل ونجاح يقومان بمهمة كبيرة سيكون لها أثر كبير في المستقبل، وهما يجسدان الفلسطيني الذي يصر على حمل فلسطين في وجدانه أينما ارتحل، لقد أنشأ باسل ونجاح وطن المهجر المصغر لكي يبقيا أمل العودة إلى الوطن الكبير فلسطين حاضرا في كل حين .
(الغد)