تمثل السخرية متنفساً طبيعياً تجاه ما يواجه الشعوب والأمم من ازمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وترتكز في سياق التعريف المختصر للمواقف والأحداث، الكبيرة والصغيرة على السواء، حيث تتمظهر حول أكثر من نمط منها ما هو متعلق بالسياسة وبشخصياتها المثيرة للجدل، أو بما يتعلق بالسياق الجمعي، التي تمس البعد المهني أو الطبقي مثل التعليقات الساخرة حول الأطباء والمهندسين، أو الترميز المختزل للفوارق الجهوية أو المناطقية، أو بما يتعلق بالهوية الجنسية وما تنطوي عليه من مصطلحات مكثفة، إيحائية، مضحكة وتثير الحرج في الوقت ذاته،
وفي سياق متصل، تعد السخرية وسيلة سياسية فعالة، إذ يمكن استخدامها من اجل كشف تورط بعض السياسيين، أو نسف مقولاتهم، أو التقليل من قيمة أفكارهم من خلال استخدام "الميمز" مثلاً. وقد كانت السخرية وسيلة مناسبة في مواجهة البنى السلطوية، وتم استخدامها بكثافة من قبل الجماهير، لأنها تسهم في تحطيم الهالة والخطوط الحمراء التي حاولت الأنظمة رسمها طوال العقود الماضية (فضلاً عن الخطوط التي ترسمها الثقافة الشعبية حول الجنس أو الدين).
ولكن الناظر لحال "فن" السخرية في سياقنا العربي سيجد ابتذالاً مقصوداً قد يصل إلى حد التجهيل الممنهج، ليس المقصود بالطبع عدم التوظيف السياسي للسخرية، فهذا له علاقة بكسر القواعد الجامدة لصالح أخرى تغييرية، إنما المقصود هو فهم دوافعها ومن ثم استقراء التلفظ الساخر وعلاقة ذلك بالبنية اللغوية . وهذا الاستقراء لا يعنى بتدمير نمط السخرية تماماً، بل بفهمها ضمن ما تحدثه من نتائج في البنى الاجتماعية، سواء كان ذلك على مستوى تدمير الخطوط العامة التي تحمل بعداً تقديسياً، أو بالتشويه المتعمد للشخصيات الاعتبارية.
وبالحديث أكثر عن تشويه الشخصية، يمكن القول، في هذا الإطار، إن ثمة تيمة في معظم السياق التداولي التواصلي ترتكز على السخرية من أي موضوع، أو فكرة، أو موقف، أو تصريح. السخرية أصبحت وسيلة هروبية من عناء التفسير، وسمة أساسية للشعور العدمي أو الضئالة الفكرية، بل يمكن الجزم أنها غدت علامة على "الفهم" التي تعمل على تأطير المعرفة بالسخرية ضمن صورة توحي بأن الشخص الفلاني يعرف لأنه يسخر دائماً! ولذا تجد رواد السخرية يلحون على استهجان ورفض "اللغة" المعرفية، ومن ثم اغتيال من يستخدمها معنوياً عبر الاستهزاء. البعض هنا يتوسل السخرية لإخفاء جهله، وعدم قدرته على استخدام التفكير النقدي. ربما تكون أداة للانتقام من "العارف" أو النخبوي، حيث توحي بالقدرة على إحداث الإهانة، أو حتى الشعور بأن ذلك المثقف يمكن السخرية منه وتجريده من سلاحه المعرفي، وبالتالي إمكانية التساوي معه.
ومع تزايد تأثير البرامج الساخرة، كونها تمثل مادة هروبية سهلة للقوى الجماهرية، ووسيلة بسيطة لتفسير تعقيد المشهد السياسي وما يفرزه من صراعات بين أطراف متعددة، فضلاً عن استخدامها من قبل أنظمة ثرية عبر "مشخصاتية" لا يتورعون عن استخدام ما يملكون فقط لكي يرضي عنهم الممول، فإن السياق الحالي يؤسس لمرحلة تسخيفية خطيرة؛ إذ لا تتعلق المشكلة بالسخرية التفكيكية، بل بقدر ما تكون موجهة لأشياء محددة، فمثلاً السخرية من السياسية باتت سمة نموذجية لبعض "الممولين"، ولكنهم، وللمفارقة، لا يستطعون السخرية من التطرف، أو الذكورية!
إن الساخرين وباستهدافهم المكثف للأشياء والأشخاص والأفكار، يمثلون "آخر الموضة" بالنسبة لصورة ما يجب أن يكون عليه الشباب، وهذا الكم من "الضحك" قد يكون لإعطاء انطباع، في مواقع التواصل الاجتماعي، أن فلان لا يشكو من قلة السعادة، والدليل هو تفاعله الضاحك على الأشياء بسبب وبلا سبب. أما اليوم فقد باتت السخرية بديلاً عن ممارسة التفكير، فضلاً عن استخدامها، وبشكل ماكر، من قبل القتلة والمجرمين، فتراهم يسخرون من الضحايا، ويستخدمون السخرية كسلاح بديل عن ممارسة السياسة.