كأنها ثقب أسود يمتص النور وفيضه. دروب عمياء، وعصيٌ كثيرة، كلها تشير إلى أُفق لم يعد موجوداً.
كتابةٌ ومحوٌ. وأحياناً يسبق المحو الكتابة، أو يزاحمها. ذاكراتٌ تخذل أصحابها. والمرهفون، منذ أول الخطو، يسقطون في الوجع . وجعٌ يفشل، من تلقاء نفسه، في التحول إلى ألم .صمتٌ زاخر بالصخب. والروحُ تبحث عن ليلٍ أضاع عطره. ليكن هذا الرحيل أقصر. بيد أن الموتى لا يعودون. ما همَّ. فَسِيَرُ القديسين تجترح المعجزات ارتجالاً..(!).
آوي إليكِ.. ، أيّ هذه الأحزان، حتى لتحملني يداكِ كطفلٍ آوى الطفلُ أمه . رملٌ على رمل. ماءٌ على ماءٍ. ويبقى ذلك الحزن واقفاً. لا يستريح. ولا يتمطى. ولا يغفو إلا إذا ارتجل، مضطراً، حزناً آخر: مستبدٌ وعادل. أميرٌ وتاجرٌ. نهماتٌ هي جديلة حزن، بلون العقيق . فُكّها يا صاحبي، نهمةً نهمة.
في النهمة الأولى، صراخٌ ذبيح: لكَ إبطاءُ المذلِّ المنعم، وتجنيّ القادر المحتكمِ . وفي النهمة الأخرى، يكفّ الحنينَ عن كيّ الضلوع . ضلوعٌ صارت من حريقها، ورقتها، بربارة شرقية : شفيعةٌ لكل من تمتلئ حيواتهم بالقلق والمجازفات.
وجعٌ آخر، كالعمى، فلا تبصر. ونكايةً، تحدِّقُ ثانية في النور، ترفاً. فتأتي مواسم الهذيان..(!!).
خلودٌ يلدُ موتاً، لينفصل عنه. فيحررك من الخوف. ويتسع الثقب الأسود ثانية: غموض هو الوضوح كله. وبلا حصص من المعرفة. فتعطش. ويتشقق الحلق. ومن شقوقه، تتسلل فكرة، هي ذاتها مصدر سوء فهم مطلق .
الأنبياء يرتجلون أنوارهم. وأنت لا تريد أن تكون نبياً. لا شيء ترجوه سوى أن تكون مواطناً عادياً. عاديةٌ، هي في الأصل حقك في أن تكون جريحاً ومقهوراً . وحقك في أن تغضب، وتعترض. ان تحنق، ولا تنكسر، وأن تبقى أبيّاً ونظيفاً أيضاً.
كيف يضيق الوطن عند البعض؟ وكيف يتسع عند آخرين؟ والوطن ذاته لم يتغير. كأنها أحزان تنفلت من أصحابها. فتسقط في ثقبها الأسود، وتتسع. أو تستظل بالشمس، فتصير خيوطاً من فضة.
فضةٌ لا تُنجيك، بل تلفُّك بالأبيض المغزول مرافئ، أحرقت مراكبها. وخلع العمر مراسيها. أما البحارون، فاستحالوا، منذ أمدٍ بعيد، إلى أوجاع فقدت ارادتها وقدرتها على التحول إلى مجرد أحزان نبيلة..!؟
FAFIEH@YAHOO.COM