حالنا مع الإعلام كحال الصياد الأحول الذي يطلق خرطوشه على يمين الطير أو يساره، ويفشل في التسديد عليه مباشرة.
عقدان ونحن نتحدث عن ضرورة تطوير الإعلام الأردني وتخليصه من الحالة المرضية التي تلبسته، وجعله إعلاما عصريا يواكب التطورات الهائلة والسريعة على الإعلام في العالم، والنية لا تكفي إذا كنا لا نملك الرؤية الحقيقية لتحقيق هذا الهدف، ولا نملك الأدوات الفعلية لذلك، وتجاوز كل العقبات على الطريق .
حاجتنا إلى إعلام متطور مواكب للعصر ومواكب للمتغيرات التي طرأت على عقلية ونظرة المتلقي للرسالة الإعلامية وفهمها ضرورية، وبالضرورة أن يكون الإعلام الذي نريد يرقى إلى طموح الدولة والإنسان الأردني والقيم التي بنيت عليها الدولة، خصوصا في هذا الزمن الذي يشكل الإعلام فيه حجر الأساس.
نعاني حاليا من حالة إعلامية مرتبكة، حيث لا رسالة واضحة ومحددة ولا بوصلة دقيقة ، وتحلل كثير من العاملين في هذا الوسط من كل أسباب المهنية وأخلاقها وانطلاقهم إلى غايتهم مستبيحين الوسائل المحرمة للوصول إلى أهدافهم، فالكذب والإثارة والتهويل هي أبسط الوسائل التي يستغلها الإعلام المريض للوصول إلى غايته التي تقوم على خديعة الناس وإبطال قدراتهم على التفكير حتى أصبحوا ضحايا عاجزة عن أي مقارنة، فقد اختلطت الأمور عليهم في الإعلام ورسائله
وقد أصبح كل من ليس له عمل يحاول الدخول للإعلام ليصول ويجول دون رادع، حتى أصبحنا وكأننا في سوق مفتوح كل مناد ينادي على بضاعته، فغابت المهنية وغابت الأخلاق عند الكثيرين وانزوى أصحاب المهنة بعيدا، وظهر الغث على السطح حتى لم يعد المتلقي يفرق بين الصح والخطأ وبين الحقيقة والدس.
ساعد على ذلك كثير من الأسباب أهمها السكوت لزمن طويل عن حالة التدهور حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن وقد أصبح العلاج صعبا ولكنه غير مستحيل، كما جاء تشجيع مسؤولين في مختلف المواقع عبر سنوات طويلة من باب "إبعد عن الشر وغني له" هذه السلوكيات غير المهنية، وبالضرورة غير الأخلاقية من خلال السكوت عن أصحاب هذه الممارسات وربما تقريبهم ، الأمر الذي جعل هؤلاء "يعشعشون" في مختلف طبقات الإعلام حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من واقع إعلامي أقل ما يقال عنه أنه غير صحي!!
حاول كثيرون حل المشكلة ، ولكن تصويبهم على المرض كان خاطئا وغير دقيق، فرأينا استراتيجيات ولجان وحوارات، وظلت هذه في الأدراج يعلوها الغبار، ونسينا أو تناسينا أن الإعلام الأردني عندما كان إعلام دولة لم تكن هناك استراتيجيات مكتوبة ولا لجان تجتمع، بل كان هناك قرار سياسي لإيجاد إعلام قادر على أن يكون جزءا فعالا في أداء الدولة، والدفاع عنها، بل في كثير من الأحيان واجهتها على قاعدة الوطنية الصحيحة والمهنية العميقة والإيمان بالدولة، وقد تصدى آنذاك لأخطر الهجومات وأشرسها على الأردن في الإعلام العربي وغير العربي، وانتصر الأردن في تلك المواجهات التي لم تكن من ناحية الأدوات الإعلامية متكافئة، ولكن وقوف الدولة خلف إعلامها ووضوح الرؤية لديها نحو مشروعها وإشراك الإعلام مشاركة فعالة في القرار من خلال توفير المعلومة بكل أنواعها جعل هذا الإعلام في كثير من المفاصل والمنعطفات يقود معركة الدولة في الداخل والخارج.
اليوم، نحن تائهون، ولا نعرف ماذا نريد من الإعلام، هل نريده مرآة تعكس ما يريده المسؤول؟ أم نريده مرآة لما تريده الدولة ويريده الإنسان الأردني؟ الإعلام لدينا بات يجدف في كل الاتجاهات، دون تحديد هدف، وليس له هوية واضحة أو محددة، وغرق في المجاملة على حساب الحقيقة، والبعض الآخر يعتبر إدارة الظهر للدولة والحكومة والإنجاز نوعا من الممارسة الإعلامية المطلوبة وهذا النوع لا يعنيه الا الشعبويات والإثارة، الأمر الذي أفقد إعلامنا بالكامل ثقة الناس وفي كثير من الأحيان لم يعودوا يحترمونه!
إذا أردنا اليوم تغيير واقع الإعلام الأردني وإعادته إلى السكة التي نريده عليها، يجب تحليل أساس المشكلة وتفكيك حلقاتها ونعترف أولا من باب تحديد مواطن الخلل أن الإعلام كما أشرت في البداية بات ميدانا مفتوحا لكل من هب ودب، وأن الغث غطى على السمين فيه، في ظل سكوت كل من يهمه الأمر على ذلك، كما يجب تجديد التشريعات إن وجدت وإيجادها إن لم تكن موجودة لتحديد من يجوز له أن يكون صحفيا أو إعلاميا.
ويجب أن يكون هناك شروط حازمة وصعبه لمن يريد ممارسة مهنة الأعلام والصحافة من قبل مؤسسات يجب إيجادها بالسرعة الممكنة، ولماذا لا يكون هناك إمتحان يشبه الإمتحان الطبي العام "البورد" لمن يريدون ممارسة مهنة الصحافة والإعلام ،كما يجب الانتباه للفوضى الموجودة في عملية قبول الطلبة بتخصص الصحافة والإعلام في الجامعات لأن جزءا كبيرا من المشكلة يبدأ من هناك لعدم وجود الشروط الواجبة لدراسة هذا التخصص حيث يتخرج معظم الطلبة شبه أميين ويدخلوا ميدان الممارسة فيضربون في الناس طولا وعرضا بقصد أو بدون قصد ويكون الأثر ما نرى اليوم..
كل ما ذكرت جزء يسير من أسباب مأساة الإعلام لكن عنق المشكلة وقلبها بيد أصحاب القرار في الدولة الذين يجب عليهم اتخاذ قرار واضح، هل يريدون إعلام دولة يكون راقيا ومتطورا في خدمة الأردن الدولة والإنسان الأردني؟ أم سيظل الإعلام الأجنبي مسيطر على تفكيرهم واحترامهم وإهمال الإعلام الاردني لنصل إلى حالة من السوء لا يمكن الخروج منها، وهل يفهم هؤلاء أن أي دولة دون إعلام حقيقي ستكون فاقدة لأحد أهم أذرعتها؟؟ ..
رغم حجم السواد في الصورة، إلا أن هناك بقع ضوء من الممكن البناء عليها فما زال لدينا أعلاميين وصحفيين وكتاب يمارسون عملهم بحرفية وأخلاق ومؤسسات تقاوم حتى تظل ممسكة بمهنيتها وأخلاقها سواء في الصحافة الإلكترونية أو الورقية وحتى على مستوى الإذاعات فمن الواجب دعم هؤلاء حتي يستمروا بوقوفهم في وجه الموج الأسود..