عزمي الشعيبي لا يحتاج شهادتي ولا شهادة أي كان، ولكن لمن لا يعرف الشعيبي من الأجيال الشابة، أو أولئك الذين يعتقدون أن بأمكانهم اسكاته وترهيبه، فلابد من تلميع ذاكرتهم كما كان يقول الزعيم الراحل أبو عمار . فتاريخ عزمي الشعيبي النضالي بدأ منذ ريعان شبابه وهو طالب جامعي في الاسكندرية، وطوال معترك حياته من أجل فلسطين وقضية شعبنا، لم يكن من "النخبويين الفوقيين" رغم المواقع الحزبية والوطنية والرسمية التي تبوأها، بل كان دوماً قريباً من الناس يتحسس وجعها ومعاناتها تحت الاحتلال وفي منافي اللجوء . ربما أن مهنة طب الأسنان ساعدته على الشعور بالألم مع مرضاه، فكان دوماً منحازاً للفقراء والمظلومين. كنت شاهداً على صلته بالناس في عيادته في جبل الحسين في عمان، حيث جمعتنا سنوات الإبعاد والعمل سوياً في لجنة المناطق المحتلة للجبهة الديمقراطية ومن ثم الاتحاد الديمقراطي .
كان عزمي قد أبعد هو والمناضلين مروان برغوثي وأمين مقبول إلى الأردن قبيل اندلاع الانتفاضة الكبري في نهاية 1987، حيث عملنا معاً في لجنة اسناد الانتفاضة من عمان. و قد سبق له أن مثّل الجبهة الديمقراطية في الجبهة الوطنية ولجان التوجيه الوطني مع الراحلين الكبار حيدر عبد الشافي و ابراهيم الدقاق وفهد القواسمي وبسام الشكعة وكريم خلف ومحمد ملحم وغيرهم من الرموز الوطنية ، وخاض الانتخابات البلدية في مدينة البيرة عام 1976 التي مثلت في حينه تحدياً للاحتلال واعلاء صوت منظمة التحرير الفلسطينية رغماً عن بطش الاحتلال ودمويته .
عزمي أحد مؤسسي الحركة التطوعية في فلسطين، في بداية و أواسط السبعينيات . بعد أن أصبح عضواً في المجلس التشريعي اختار العمل لمأسسة الرقابة البرلمانية على الحكومة والسلطة التنفيذية، حيث تبين للكثيرين منذ بداية نشأة السلطة، بما في ذلك من اعتقدوا أن أوسلو قد يكون خطوة نحو انهاء الاحتلال، بأنه على مدى القدرة في ترسيخ العدالة والحكم الرشيد وحسن الاداء لتأسيس مؤسسة محترمة خالية من المحسوبية والفساد، تحترم شعبها أولاً، وتستثمر مواردها لتعزيز صموده وقدرته على البقاء والمقاومة الشعبية، ربما حينها سيتمكن الشعب الفلسطيني من اختراق قيود اوسلو التي لم تكن سوى مجرد دفرسوار للالتفاف على حالة النهوض الوطني التي كانت ذروتها اندلاع شرارة الانتفاضة الكبرى. فقد استخلصت حكومات اسرائيل، التي بدأت تدفع ثمن احتلالها الذي فرضته الانتفاضة عليها، بأنه دون اغراق فلسطين المحتلة ببيروقراطية الفساد التي بدأت تمسك بعنق ثورة المنفى، لن تنجو من مأزقها أو تكون قادرة على احتواء التحولات المحلية والاقليمية والدولية التي فرضتها الانتفاضة الكبرى، التي حملت أملاً بإمكانية دحر الاحتلال والمضي قدماً نحو الحرية، فقد كانت الانتفاضة ورغم ما لحق بها من ثغرات مرشحة كي تتطور إلى رافعة تاريخية لاستعادة الحقوق الوطنية المسلوبة،بعد أن كانت اسرائيل قد توهمت بأنها نجحت في دفن الوطنية الفلسطينية بين حربي نكبة 1948 ولبنان 1982.
لست قانونياً لتفنيد طبيعة الاعتداء على القانون الذي تضمنته محاولة اسكات الشعيبي وعصام الحاج، بل وائتلاف أمان العضو الوطني في منظمة الشفافية الدولية ذاتها، ولكنني أدرك و وفق كل الاستطلاعات أن ظاهرة الفساد بكل أشكاله وظاهرتي المحسوبية واستغلال النفوذ قد تجاوزت كل الخطوط الحمر في كل من قطاع غزة التي تخضع لسيطرة حماس أو في اطار السلطة الوطنية، متغذيةً من غياب الرقابة البرلمانية بفعل تجميد عمل المجلس التشريعي بعد الانقسام ومن ثم حله، والاصرار على التهرب من استحقاق اجراء الانتخابات العامة، حتى لو كان ثمن ذلك تفكك الشرعيات الوطنية الجامعة، وضياع القضية الوطنية جراء الانقسام، والذي بات يشكل المعول الأهم في يد اسرائيل لتحطيم الكيانية الوطنية والانقضاض على حقوق شعبنا التاريخية في هذه البلاد .
محاولة اسكات الشعيبي
لم يقم الشعيبي إلا بما تفرضه عليه قواعد المواطنة الصالحة، والمسؤولية الوطنية المناطة بجميع المواطنين ومؤسسات الشعب الفلسطيني، بما فيها ائتلاف أمان والاهداف الذي تأسس من أجلها لمكافحة الفساد "في موسسات سلطة الأمر الواقع التي تقودها حماس في غزة أو حكومة السلطة الوطنية والمؤسسات التابعة لها"، وفي هذا السياق فإن تقرير أمان لعام 2022 "واقع النزاهة ومكافحة الفساد في فلسطين"كان يؤدي المسؤولية المناطة به، مع أن ذلك جاء متأخراً بعض الوقت، وبعد أن صمّت آذان المؤسسات ذات الصلة التي خاطبها ائتلاف أمان وأغلقت عيونها، عن تلك القضايا التي تضمنها التقرير وبعضها يمس بعصب الوطنية الفلسطينية، وبدلاً من أن تعود تلك المؤسسات للقيام بواجباتها، فقد تم تقديم شكوى وتحريك قضية في المحاكم ضد من يكافح الفساد ويقوم بواجب تعريته. أيّ استهتار هذا بعقول الناس؟، فهذا يشكل تجاوزاً لكل الخطوط الحمر، حيث بدلاً من مساءلة الفاسدين ومحاسبتهم، تجري محاولة اسكات الشعيبي والحاج وأمان ومحاكمتهم !!! ولكن، كما يبدو أن هذه المحاولة تتحول إلى قضية رأي عام ومحاكمة شعبية للفساد والفاسدين .
نهج الاقصاء معول هدم للحركة الوطنية
نعم، كفى.. فقد طفح الكيل، إن استمرار محاولات اقصاء كل من لديه رأي يحول الحركة الوطنية و مؤسسات البلد إلى مجرد خواء، ويشكل خطراً على المصير الوطني، وعلينا أن ننظر لهذه القضية التي باتت قضية رأي عام بهذه الأبعاد، بالاضافة إلى أن ما يجري بات يمس بمكانة القضية الوطنية لدي حلفاء شعبنا الطبيعيين ومن بينهم منظمة الشفافية الدولية التي باتت موقع تأثير كوني.
لقد كنت شاهداً بالصدفة على مكانة أمان الاقليمية والدولية في مؤتمر الشفافية الدولية الذي عقد في كوبنهاغن عام 2019، حيث تصادف استضافة فيلم نائلة والانتفاضة لاظهار بشاعة الاحتلال في اطار تطور دور الشفافية الدولية في معالجة وفضح قضايا الفساد السياسي وانتهاكات الحكومات ومنها الاحتلال الاسرائيلي. في سياق هذا المؤتمر الذي حضره أكثر من أربعين وزير خارجية ومئات المؤسسات والشخصيات البرلمانية من معظم دول العالم . كانت فلسطين وائتلاف أمان حاضرة بقوة وبعلاقات مؤثرة لهذا الائتلاف كواحدة من روافع أحقية الفلسطينيين بالحياة والاستقلال بتقرير مصيرهم وادارة مواردهم المنهوبة من الاحتلال.
سبق وأن صُممت قوانين بقرار ولوائح تنفيذية في تعارض مع القوانين السارية والنظام الأساسي، بهدف التضييق على المؤسسات غير الربحية ودفع بعضها للاغلاق كما حدث مع مؤسسة الغد التي أسسها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض لمساندة المزارعين والأرياف المهددة بالاستيطان والمصادرة، وأهلنا في البلدة القديمة في القدس وترميم البيوت الآيلة للسقوط في بعض المخيمات. ذلك بعد أن فشلت كل محاولات تشويه تلك المؤسسة التي انتصرت لها العدالة .
الدرس الذي يجب استخلاصه هنا هو اذا كان الصمت على ما جرى مع مؤسسة الغد في تعارض مع الأولوية الوطنية العليا المتصلة بتعزيز صمود الناس في مواجهة الاستيطان، التي تستدعي تجنيد كل الموارد الرسمية والشعبية والأهلية في خدمة هذه الأولوية الوطنية، وليس دفعها للاغلاق، فعلينا أن ندرك أن المهيمنين على الموارد والمصير الوطني باتوا يهددون كل من يخالفهم الرأي ويسعون لاسكاته، واذا مر هذا الاعتداء دون موقف شعبي رادع ، فإن النسيج المجتمعي سيكون عرضة للاستهداف والتفكك .
نحو ائتلاف شعبي للدفاع عن المصير الوطني
كم بتنا بحاجة ماسة لانبثاق ائتلاف شعبي عريض للدفاع عن المصالح الوطنية العليا والمصير الوطني، والالتزام بقواعد التعددية في مواجهة سياسات التفرد والاقصاء والهيمنة الانقسامية، واعادة الاعتبار لمؤسسات الوطنية الجامعة لتوحيد كل الجهود من أجل تصويب بوصلة النضال الوطني ضد الاحتلال بدلاً من استمرار النزيف في مكونات الجبهة الداخلية . إن التقدم نحو انجاز ذلك يتطلب مبادرة الشخصيات والقيادات الوطنية المستقلة في رأيها وتوجهاتها خارج محاور الاستقطاب والهيمنة الانقسامية لتشكل رافعة سياسية للحراكات الاجتماعية والشعبية والوطنية وللفئات العريضة المتضررة من الانقسام والفساد، وأن تتقدم بخارطة طريق انتقالية تساهم في اخراج قضيتنا الوطنية من الانسداد الذي تمر به، وتكرس أولوياتها لتعزيز صمود الناس واستعادة حقوقها الدستورية بالتحضير لاجراء انتخابات عامة خلال مدة كافية لاطلاق الحريات التي تجعل من الانتخابات محطة للتغيير واسقاط الانقسام وانقاذ القضية الوطنية .
هذا واجب كل الوطنيين الفلسطينيين أينما كانوا، وإلا فلن يرحمنا التاريخ ولا شعبنا الذي لن يُنكس رايته .