أي اختبار هذا الذي يواجه الأحزاب الوطنية البرامجية وهي تعد نفسها لمرحلة صعبة من مسيرتها الحزبية، وقد أصبح لزاما عليها أن تعد استراتيجياتها، وتضع عناوين غاياتها وأهدافها، وكيفية الوصول إليها، وفق منهجيات علمية، وخطوات تنفيذية مدروسة بعناية، وخبرة فائقة، ونضج فكري واقعي، وقدرة على التحليل والتقدير والاستشراف؟!
قد يبدو الأمر سابقا لأوانه بينما لا يزال البعض منها منشغلا بمرحلة التأسيس والتنظيم، وفي رأيي أن الوقت يمر سريعا، وأن وضع الاستراتيجيات عملية تخصصية من الناحية النظرية، وعادة ما يعكف عليها مجموعة من الخبراء والباحثين، سواء كانوا من داخل الحزب أو من خارجه، فليس من شأن عملية من هذا النوع أن تتأخر من حيث المنزلة والأهمية لأنها القاعدة التي تنبني عليها العمليات الحزبية اللاحقة بمختلف اشكالها وتفاصيلها.
إن مجرد التفكير في اختيار الغاية الأولى من غايات الحزب والأهداف المتصلة بها يحتاج إلى تفكير عميق من أجل فهم وتبرير سبب الاختيار، وإلا فإنه سيتم الخلط بين مفهوم الغاية، ومفهوم الأولوية، فالغاية التي تقوم على مجموعة من الأهداف هي التي تمنحنا القدرة على التعامل مع الأولويات، وليس العكس، ومن هذه الناحية فإن أخطر ما يمكن أن تواجهه الأحزاب في هذه المرحلة بالذات هو الرضوخ للشعارات، أو الانسياق وراء الشعبوية بدل عقلنتها وإعادة تنظيمها، واستيعابها في العمل الحزبي لتحويلها إلى حيوية ايجابية فاعلة، في إطار عملية توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار .
لا بد هنا من التذكير أن العملية الحزبية جاءت ضمن عملية متكاملة لتحديث المنظومات السياسية والاقتصادية والإدارية، وبما أننا نتحدث عن مفهوم الأحزاب البرامجية أي التي تعمل على أساس مشروع عملي للإصلاح والنهوض والتطور فإنها أقرب ما تكون شريكا في تلك العملية، وعلى ذلك فإنه من المنطقي أن تتمثل الغاية الأولى في تحديث وتطوير ومأسسة القطاع العام، وحوكمة المالية العامة، لأنه لا يمكن الوصول إلى الأهداف المرسومة ما لم تكن مؤسسات الدولة قادرة على القيام بمسؤولياتها على أفضل وجه.
فمن دون تبني منهج تحويلي في إدارة القطاع العام كما وكيفا، واعتماد الرقمنة في الخطط والسياسات، وتقييم الأداء، إلى جانب الحوكمة والتنافسية والجودة والتدريب والتأهيل، لا يمكن أن تتقدم القطاعات، ولا تنجز المعاملات بالدقة والسرعة اللازمة، ومن دون ترشيد الانفاق، وتنمية الايرادات، وإعادة هيكلة الاستراتيجية المالية وسياساتها، وإعادة هندسة إجراءاتها، فإن بقية الغايات والأهداف الأخرى لن تكون مضمونة النتائج.
في هذا السياق يمكن أن يكون التكامل والتنسيق ما بين القطاعات المكونة للاقتصاد الوطني الغاية الثانية، وتنشئة وتنمية الرأسمال البشري غاية ثالثة، وتحديث الحماية والرعاية الصحية والاجتماعية غاية رابعة، وتطوير وتحديث البنية التحتية والارتكازية غاية خامسة، وهكذا بقية الغايات، وذلك لا يعني أنها تأتي على شكل سلم تصاعدي وإنما تسير كلها معا بالتوازي، تتفاعل مع بعضها وتفضي إلى الغاية المثلى، أي الأردن الجديد الأكثر قوة وثباتا وأملا!