الموسِيقى التّصويريّة ودوْرها في إبرازِ الصّور الشّعريّة
أحمد حسن ضيف اللّه
12-06-2023 08:29 AM
ما علاقةُ توظيفِ الصّورِ الشّعريّة في الشّعر بالموسيقى التّصويريّة وهل يُمكن بناء القصيدة بِكُلّ ما تحويهِ مِن أفكارٍ ومُحسّناتٍ بديعيّةٍ وعاطفةٍ وخيال دون أنْ يكون هناكَ وقْعٌ موسيقيٌّ تطْربُ لهُ الآذانُ عند سماعها وقراءتها ؟!..
لا يُمكن أنْ تخلو قصيدة مِن الوزن والقافية حيث أنّ الوزنَ في القصيدة هو البحر الذي تستقيمُ عليهِ القصيدة بِشقّيها الصّدرُ والعجُز والقافية هي الحرف الأخير أو ما يُسمّى بحرف "الرّوي" (الحرف الصّحيح ) في نهاية الشّطر الثّاني مِن البيت الشّعريّ والّذي يُعطي رنّةً موسيقيّةً مُتناغمةً في كُلّ أبياتِ القصيدة وكأنّك حينما تقرأُ القصيدة أو تسمعُها تتجوّلُ في بُستانٍ مليءٍ بالأزهارِ مُختلفة الألوانِ والأشكال فتقطِفُ مِنها ما تطيبُ بها نفسُك وترتجيهِ عوالِمُك وتشتمّ مِنها رائِحةَ العِطر الفوّاح في كُلّ أبياتِها.
ومِن هُنا جاء تعريفُ الشّعرِ بالكلام الموزون المُقفّى الّذي تحكُمهُ هندسةٌ موسيقيّةٌ مُحكمةُ البِناء.لا يشوبُها خللٌ ولا نشوز عند سماعها أو قراءتها.فالسّلّمُ الموسيقيُّ ينتشي تيهًا بالوقع الموسيقيّ الجميل ويجذبُ القارىءَ والسّامع لهُ كما لو أنّه يستمِعُ إلى مقطوعةٍ موسيقيّةٍ مُستقيمةَ البِناء والأركان.
ولِذلكَ نستطيعُ القول أنّ الموسيقى التّصويريّة تخلِقُ تناغُمًا وتجاذُبًا رائِعًا في ظهورِ الصّور الشّعريّة بمظهرِ الفتاةِ الجميلةِ الأنيقة صاحبةِ الحُليّ البرّاقة والإطلالةِ المُشرقةِ الّتي تَسُرُّكُ رُؤيتُها وتفرحُ بالحديثِ معها وأنتَ تتنقّلُ برِفقتِها بين الأزهارِ الورديّة والروائِحِ العطريّة فتشعُرُ معها بمعاني القصيدة والحالة الشّعوريّة الّتي يعيشُها كاتب القصيدة مِن مشاعرَ وعواطِف وخيال يأخُذكَ إلى عالَمِ الشّاعرِ الحقيقيّ كما لو أنّك تكتُبُ معه وتُشاطِرهُ أفكاره وما يرمي إليهِ وما يُريدُ إيصالهُ لكَ بِكُلّ سهولةٍ ويُسرٍ وبلا تكلّفٍ أو تصنُّع.
ولعلّ النّفس الإنسانيّة تميلُ إلى ما يُثيرُ فيها الإحساسِ ويُحيي فيها أوتار شفافيّتها المُرهفة بل ويُدغدِغُ مشاعِرها وعواطِفها بالكلام المُؤثّر المُعبّر عن مكنوناتِ الحالة الشّعوريّة الّتي يحياها الشّاعرُ عند نظم قصيدتهِ كيف لا وهو الفنّانُ بنظمهِ والمُتكلّمُ بوصفهِ والأديبُ بتسخيرِ الخيالِ الواسعِ وتطويعِ الأفكارِ والمعاني لصالحِ قصيدته ومصفوفتهِ موزونةً ومُقفّاةً كما ينبغي لها أنْ تكون .
ومِن الجديرُ بالذِّكْر أنْ نُسلّطَ الضّوءَ على أنّ شخصيّة الشّاعِر وإبداعهِ الجماليّ يظهرُ في قصيدتهِ وكلامهِ والمعاني الّتي يَستخْدِمُها والّتي لا تحتَكِمُ إلى قواعِد عقليّةٍ أو حدودٍ منطِقيّةٍ في أغلبِ الأحيان لِأنّ إلهام الشّاعر قد يتجاوز كُلّ هذه الحدود في بناءِ قصيدتهِ فهو يسبَحُ في فضاءِه الواسع ويلتقطُ كُلّ الكواكبِ والنّجومِ وينثُرُها في أبياتهِ لِتُضيءَ الجوّ العام الّذي تُحاكيهِ القصيدةُ فلا يُمكنُ أنْ تشعُر بجمالِ القصيدةِ أو إلى الدّوافعِ لِكتابتِها بدونِ سبرِ أغوار النّصّ للقصيدة كي تعيشَ جوّها وتستظِلّ بفيءِ ظِلالِها.
ويُعتبرُ البحر الكامل - أحد بحور الشّعر الرّئيسيّة - بحر الحركات وصاحبُ الصّدارةِ في إبراز الإيقاع الموسيقي في موضوعاتهِ بِكُلّ لينٍ ورِقّة .ونذُكر على سبيل المِثال بعض الأبيات مِن قصيدةِ الشّاعرالأديب أحمد شوقي الّذي اشتهرَ بالشّعرِ الدّينيّ والوطنيّ وهو رائِدُ الشّعرِ العربيّ المسرحيّ والّذي يٌعتبَرُ أكبر مُجدّدي الشّعر العربيّ المُعاصِرِ في زمانهِ والمُلقّبُ بِأمير الشُّعراء حيث ُ يقولُ في قصيدتهِ المشهورة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليهِ وسلم بعنوان ( وُلِدَ الهُدى فالكائِناتُ ضياءُ) :
يا خيرَ منْ جاءَ الوجودَ تحيّةً مِنْ مُرسلينَ إلى الهُدى بِكَ جاؤوا
بيتُ النّبيّين الّذي لا يَلْتقي إلاّ الحَنائِفُ فيهِ وَ الحُنَفاءُ
خيرُ الأُبوّةِ حازَهُمْ لكَ آدمٌ دونَ الأنامِ وأحْرَزَتْ حَوّاءُ
بِكَ بَشّرَ اللّهُ السّماءَ فَزُيّنَتْ وَتَضَوّعَتْ مِسْكًا بِكَ الغَبْراءُ
صلواتُ ربّي وسلامُه عليكَ حبيبي يا رسولَ اللّه وكأنّني حينما أقرأُ هذه القصيدةَ بجمالِ معانيها ورُقيّ ناظِمها أزدادُ شوقًا وحُبًّا إليك كيف لا وأنتَ من زادَ جمالَ الكَلِماتِ حلاوةً ورِفعة بِخصالِك الكريمة وأخلاقِكَ الرّاقية فأصبحتْ أبياتُ القصيدةِ تتيهُ جمالاً إلى جمال رونَقِها الأخّاذ ونصّها البرّاق.