تواصل صحيفة الشرق الاوسط اللندنية منذ اربعة ايام, نشر المزيد من الوثائق السرية التي يعود تاريخها لعام 1980, قامت الحكومة البريطانية بالافراج عنها مؤخراً بعد أن مضى عليها 30 عاماً, بمعنى أن «السرّية» رفعت عنها وبات من حق الجمهور والباحثين والمهتمين الاطلاع والوقوف على أبعادها, ومعرفة الخفايا والملابسات أو الوقائع التي انطوت عليها, وبالتالي التأثيرات الميدانية التي صاحبتها والاساليب المتهافتة او غير المتهافتة التي اتبعتها الدبلوماسية البريطانية وبالتالي الغربية, في شكل عام وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية في التعاطي مع قضايا المنطقة, وفي مقدمتها الصراع العربي الاسرائيلي (الذي كان في ذلك الوقت يشمل القضية الفلسطينية, على نحو لم يكن التحلل العربي الرسمي قد وصل مداه الذي نراه الان, رغم الاخطاء بل الخطايا التي ارتكبتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حينذاك حتى الان بالتأكيد)..
المدقق في طبيعة المواقف التي تضمنتها تلك الوثائق يلحظ في غير عناء أن خطاب الدبلوماسية الغربية ولغتها التي تفوح منها رائحة النفاق والازدراء في الآن ذاته للعرب, لم تتغير إلاّ في الاسماء والتفاصيل بسبب تغيّر العناوين والوقائع, اما في النهايات والاستنتاجات والمقاربات ايضا، فإنها لا تختلف كثيراً ويمكن للمرء هنا ان يتكئ على وقائع ومعطيات صارخة ومؤشّر عليها بالتواقيع والمسميات الوظيفية والمكانة السياسية او الدبلوماسية, بدل اللجوء الى التحليل او التخمين او اعتماد الشائعات او التسريبات التي يكتشف المرء انها لم تكن من فراغ - وقتذاك - وهو ما تكشفه الوثائق.
من هنا، ثمة دعوة لابداء الحذر من قبل اولئك الذين سيسارعون الى القول ان مثل هذه المواقف معروفة سلفاً او ان هذا هو سلوك المستعمرين وقوى الاستكبار والغطرسة وبالتالي ابداء المزيد من اللامبالاة ازاء ما يكشف عنه، وعدم الاطلاع عليه والتدقيق في ما بين سطوره وهي عادة عربية كانت استحقاقاتها وأكلافها باهظة على اكثر من صعيد، ها نحن شعوب الامة كافة (دع عنك الانظمة) ندفع من دمائنا ومستقبل ابنائنا وعلى حساب حاضرنا ومستقبلنا ايضاً.
قيل الكثير عن اسرار كامب ديفيد وملابساته وسرت شائعات رددها انصار الذين اتخذوا هذا المسار القاتل سبيلا لحل مشاكلهم القطرية مع دولة الاحتلال بل إن بعضهم لم يزل يكرر اسطوانة مشروخة تقول ان الفلسطينيين اخطأوا بل ارتكبوا جريمة في حق انفسهم وقضيتهم وشعبهم لانهم لم يقبلوا «اقتراح» الحكم الذاتي الذي جاء في ملاحق «الكامب»..
الوثائق المرفوعة عنها السرية التي نشرت مؤخراً تقول عكس ذلك تماماً, حيث رفضت حكومة بيغن «أي» شكل من أشكال الحكم الذاتي في الاراضي المحتلة, بل إن السفير البريطاني في تل ابيب ارسل برقية الى لندن حول لقائه مع اسحق شامير (كان وزيراً للخارجية) في 9 ايار 1980, حول الحوار الذي دار بينهما حول حجم الخلافات المصرية الاسرائيلية بخصوص المستوطنات والدولة الفلسطينية على حدود ما قبل 1967, قال فيها - من جملة ما قاله - من «الواضح تماماً ان كامب ديفيد شيء كان يفضل ان يتناساه الاسرائيليون وعدم الكلام فيه, خصوصاً عندما يمتد فهمه وتطبيقه الى خارج الاتفاقات الثنائية المصرية - الاسرائيلية بخصوص الاراضي المصرية وسيناء»..
اذاً حكاية الاستيطان وحدود 1967 والحكم الذاتي, مجرد بالونات اختبار لتسويق الحل المنفرد أو التغطية عليه ليس الا.. كان ذلك قبل ثلاثين عاماً وها هو يتواصل الان باللغة والمقاربات والمواقف ذاتها مع اختلاف الاشخاص والتسميات والمرحلة (...)..
ثمة اثارة اكثر مثقلة بالدلالات والمعاني, التي احسب أن أحداً يجب أن لا يهملها, كوننا ما نزال نعيش «الاجواء والمناخات» ذاتها لأن عواصم القرار الدولي الثلاث واشنطن, لندن وباريس تمارس اللعبة ذاتها (رغم تغيّر المعطيات لكن الثوابت على حالها»..
برقيتان.. احداهما من بعثة بريطانيا لدى الامم المتحدة, تتناول زيارة وزير الخارجية البريطاني الى واشنطن ومحاولة ارضاء العرب واشغالهم (...) حتى موعد الرئاسة الاميركي, ووصول ريغان الى السلطة (وهذا ما يتمناه الاسرائيليون) وتسلمه الادارة خلفاً لجيمي كارتر..
«... وبسبب ما تقدم - يقول نص البرقية في احدى فقراتها - علينا أن لا نبقى مكتوفي الايدي, يجب أن نعمل ما بوسعنا لنُبقي العرب (مشغولين) في الموضوع حتى بعد الانتخابات الاميركية وبعدها ستتغير الظروف»..
هل ثمة ما يمكن مقارنته في ما جرى في ذلك الوقت ويجري الان؟ ما بالك وان عرب الأمس كانوا اقل خنوعاً واحباطاً وفساداً واستبداداً واستقالة من مسؤولياتهم, كما هم الان عرب اليوم؟
اذا اردتم المزيد عودوا الى الصحيفة اللندنية أو الى الوثائق البريطانية التي لم تعد سرّية.
Kharroub@jpf.com.jo
الراي.